رحمة الإندونيسية: أنا خَتيرت في الغربة
لم يكن عام 2005 عاديًّا بالنسبة لرحمة التي سافرت من إندونيسيا للأردن تاركةً عملها في الخياطة بحثًا عن عملٍ يؤمن لها دخلا أفضل، لتبدأ حكايتها التي امتدت لخمسةِ عشر عامًا ممزوجةً بالسفر والحب والقلق، تلخصها بقولها "أنا إيجي أردن أأمن مستقبل أولادي".
لا فرق بينهما
150 دولارًا كان الدخل الذي نصَّ عليه العقد المبرَمُ بين العاملةِ (54 عامًا) ومكتب الاستقدام، إذ كان انتقالها للأردن عن طريق الصدفة، فالـ"فيزا" الخاصةُ بها صدرت قبلَ بقيّة الدول التي قدَمَت للعمل بها وشملت السعوديّة والكويت وقطر ودبي.
اكتسبت رحمة خبرةً بإعداد المأكولات العربيّة عقب عملها في الإمارات والكويت، قبل عام 2005، ما جعلها مؤهلةً للعمل مع أصحاب المنازل الذين يهتمون بإجادة العاملات لمختلف أصناف الطعام العربيّ ويجعلون ذلك ميّزةً لرفع الدخل الشهريّ لهن، غيرَ أنَّ العديد من الأشخاص اختاروها للعمل بمرتباتٍ مختلفةٍ اتفقوا عليها مع صاحب المكتب تراوحت بين 100 – 120 دولارًا رفضتها بدورها بشدة، مؤكدةً أن العقدَ نصَ على مبلغٍ محدد وإذا لم يتوفر ما تم الاتفاق عليه "يا إمَّا 150 دولار يا إمَّا ما بدي شغل، هيك أنا حكيت".
ألم تخافي من ردة فعل صاحب المكتب أو تخشيّ أن يرجعك لإندونيسيا بسبب رفضك؟
"صاحب مكتب اللي هو بني آدم وأنا كمان بني آدم فأنا ما بيخاف، طول ما أنا بالطريق الصح فأنا ما بيخاف، في ناس عرضوا 125 دولار، في ناس 120، في ناس 100 فأنا ما بدي يا إمَّا 150، يا إمَّا بلا"، تجيب رحمة.
وحيدة في الغابة
أُسبوعٌ واحدٌ من تمسكها بموقفها وجدت بعده من يختارها بالدخل المتفق عليه في العقد، لتعمل برعايَّةِ قريبته المسنة لسنتين وشهرين في أحد أحياء ناعور، تروي ما حدث معها " أنا دير باله على ست ختياره، سنتين وشهرين ما بطلع على مكان وكإنه محجوز؛ لإنه دير بالي على ختياره وختيار بالفراش، كيف بدي أتركها؟"، في الوقت الذي كان فيه الرجل الذي اصطحبها من المكتب يزورهم من فترةٍ لأخرى حاملًا ما يحتاجه المنزل، ورغم ذَلك أحسَّت رحمة بخوفٍ شديد، فالمكان الذي تسكنه محاطٌ بالحشائِش الطويلة، وسط منطقةٍ مليئةٍ بالـ"الزعران" الذين يستمرون بطرقِ الباب وإخافتها "حوالي البيت حشيش (أعشاب طويلة) زي كإنه ساكن بالغابة، بِخَاف..".
كيف تمكنتِ من التغلب على خوفك والاستمرار بالعمل؟
"الساعة 5 الصبح أطلع من البيت، أنا نظفت هذا الحشيش، لحتى شوي شوي بالآخر أكمن شهر وخلصت كلو حشيش صار فاضي، والجيران بحبوني، أولًا، صعب بتأقلم فيها".
خيوطٌ متشابكة
96 عامًا كان عمر المرأة التي قامت رحمة برعايتها، وحيدةً دونَ زوجٍ أو أولاد، ما دفع العاملة للتعاطف معها رغم ضربها الدائِم لها نتيجة تقدمها بالعمر ونسيانها للكثير من الأحداث من ضمنها وجود عاملة منزلٍ لديها، إضافةً لوزنها الزائد الذي أثقلَ عاملتها في كل مرةٍ اضطرت فيها لحملها ونقلها من مكانٍ لآخر، تلك الوحدة التي عاشتها العجوز دفعتها لتوطيد علاقتها بجاراتها، ما انعكس بالإيجاب على رحمة التي كانت تلتقي العديد من الإندونيسيات اللواتي يعملنَ في منازل الجارات، لم تغادرها رائحة البلاد.
لماذا تركت العمل لدى المرأة العجوز؟
"تركت الشغل لإنه الست توفى، مع إنو أنا بحبها، صح أنا مو قليل آكل ضربة من هاي الست، بنادوني نجمة جيبيلي أكل من هاي مع إنه بالتلفزيون، ولو ما جبت ضربتني بالتلفون، راسي مرات كبيرة كتير بيوجع".
توضح رحمة استمتاعها بصناعة الطعام لسيدة المنزل، حتى وإن لم تكن الأخيرة تصدق بأنها من أعدته، وعلى الرغم من تكرار نكرانها بأن العاملة لا يمكنها صناعة ذلك الطعام الشهيّ الذي لطالما أحبته، تبيّن رحمة بأن عملها لدى العجوز منحها الكثير من الخبرة في التعامل مع الآخرين حولها .
حجوزات في العزاء
"قبلما سافرت، لِسا في عزا الست بنفس الوقت في ثمانية أشخاص طلبني، بدهم إيَّاني لشغل"، هكذا تُلخصِ رحمة انتقالها من مرحلةٍ إلى أُخرى، إذ بدأت العمل لدى ابنة قريبة المرأة العجوز عام 2008، التي كانت عروسًا حينها.
حدثينا عن بداياتك في العمل لديها؟
"هادا البيت لِسا مش مسكون، وأنا آجي أشوف في دهان في إشي، 12 سنة بتشتغل عند هدول الناس، أنا ختيار بالغربة، ما بعرف شو، بجوز عقلي مش مستوعب، بوين ما كان أنا بتأقلم بسرعة".
كم ساعةً تعملين في اليوم؟
"ما في ساعة محدد للشغل، بضبضب هون بعدين خلص بتحمم، وخلص بنضف الساحة، بس إذا أني ما أحب شغل بضلني قاعدة".
كيف تمضين يومك؟
أجابت رحمة بلكنتها العربيّة الممزوجة بلهجاتِ عددٍ من الدول التي عملت عند أصحابها"بس تفيق خانوم ع الـ9 أو 10، أنا جهز الفطور، بعدين بسوي قهوة، بعدين غدا هون أو برا، مثلًا عندي يوم الجمعة اجتماع، فأنا حكيت قبل يوم، أو بقول غدا عندي أنتِ شو عندك يوم الجمعة؟ وعندي "ليدي نايت" تسلاية، بشوف تلفزيون زي ما بدي، بشوف تركي..".
تعيش رحمة مع صاحبة المنزل وحدهما، عقب انفصال الأخيرة عن زوجها، ما يجعل العاملة أكثر راحةً لعدم وجودِ رجلٍ تحتاج أمامه لضبط حركاتها وإيجاد الكلمات المناسبة "أنا ست وهي ست هاد أحسن".
سفر
سافرت رحمة 10 أيامٍ إلى تركيا برفقة إحدى صديقاتها؛ لتحسم من إجازتها السنويّة، إضافةً لسفرها برفقةِ سيدة المنزل 3 مراتٍ إلى قبرص، وزيارتها لفلسطين، لم تكن رحلة قبرص سهلةً عليها، فقد أثقلَ ساعديها حمل العديد من الأغراض ونقلها عقب تسوِّقِ سيدتها.
هل عانيتِ من أية إصاباتٍ أو أمراض نتيجة العمل؟
"أنا قبل سنتين كنت أعاني من إيدي بتوجع كتير، وقتيها كنت في قبرص، وتعبت صراحة، بعديها برجع هون، أنا حاسة بإيدي هيك، ماسك كاسات بوقع، أنا روحت على دكتور عظام، صور وبعدين بعالجني، عمل 13 جلسة لإيدي، وكمان مرات كان وقتيها عيوني بوجع، بودي ع الدكتور وعمل عمليات، ولما أنا عطل بجيب صاحباتي ينظف البيت ومدام تدفع".
هل تحصلينَ على إجازاتٍ مرضيّة؟
"ما في إجازة مرضيّة، بس لو أنا مرضت بدي نام، بنام"
هل لديك يوم عطلةٍ ثابت؟
"عطلة محدد ما في، لكن أنا دائِمًا يوم الجمعة باجتماع مع البنات".
كيف تعلمتِ اللغة العربيّة؟
"كل مكان أنا بشتغل فيه، يعني شهرين أنا بتأقلم فيه، أنا بكتب بالعربي بس خطي مش حلو".
ما الصعوبات التي تواجهينها أثناء عملك في الأردن؟
"مرات في تكاسي مش مؤدبة، في سايق تاكسي يسألني أنتِ وين بدك؟ بقديش الساعة؟ ليرتين؟ 3 ليرات؟ على ايش؟ هادا كلام قليل أدب، لكن إذا بسألوا هيك سؤال أنا مش مرتاح، مهما كان أنا هون غريب، فأنا بني آدم وعندي مخ وعندي أخلاق، وكمان وقت بدي روح ورب العمل عنده ضيوف أو شي، فهادا مرات صعوبات؛ لإنه كإنه حسيت حالي سكر بوجهي، أو بشتغل كتير وما بعجب رب العمل بس ما بقدر إحكي".
هل تقومين بالعمل في منازل أقارب سيّدة المنزل؟
"مرات إخواتها بدها إيَّاني، بروح في معاش (راتب)، هلأ ما في شي ببلاش".
العاملات ما بين الماضي والحاضر
تجد رحمة تغييرًا واضحًا على وضع العاملات في الوقت الحاليّ إذ أنَّ هناك العديد من التدريبات اللاتي تُعطى لهنَّ لتقويّة أنفسهنَ ومعرفة حقوقهنَّ القانونيّة وكيفيّة التعامل معها، في حين تعمل على مساعدة زميلاتها على الذهاب للسفارة الإندونيسيّة وتقديم الشكاوي عن ما يتعرضنَ له من انتهاكات، ما دفع الكثير من أصحاب العمل للاعتقاد بأنها إحدى موظفات السفارة.
وفي ظل تقدم العلاقات بين الدول، ترى العاملة بأن الأمر انعكس على ظروف العمل، فالشعب الأردنيّ يتغيَّر شيئًا فشيئًا في كيفيّة التعامل مع عاملات المنازل، "نحنا نعمل لقاء (مناظرة) مع رب العمل، وقتيها في أكمن صحفي، كان أنا بحكي، مجرد ممثل للإندونيسيين، فبحكي أنا اللي أنا ساكن فيه مدامتي كويس، أنا حرة بس أنا ما هربت؛ لإنه شو؟ تفاهم، في تفاهم، بس في رب العمل الأناني، بعامل البنات كإنه عبيد".
كيف استطعت معرفة المعلومات القانونيّة؟
"أنا بعرف قانون لإني في مجموعات دائمًا".
تنشط رحمة في العمل مع بعضِ منظمات المجتمع المدنيّ المعنيّة بحقوق العمال وقضاياهم مثل جمعيّة تمكين للمساعدة القانونيّة وحقوق الإنسان، ومركز الفينيق، ما عزز من معرفتها القانونيّة ومساعدتها للعاملات.
هل لك دور في مساعدة زميلات لك من مجتمعك؟
"أنا بسفِّر بنات كتير، وإذا يكون في إعفاء فأنا عندي معلومات، نزَّلت ع الفيس خلي البنات تعرف، كان زمان انو أنا دائِمًا بفكر، بدي حياتي يكون بستفيد لأي واحد أو لأي ناس، بدي دايمًا ساعد الناس اللي بحتاج، إذا في ناس بدو هيك أنا زمان كنت بسافر بخاف هيك، بس أنا بسأل لو في بنت هيك هيك شو بقدر ساعد؟ بسأل بالسفارة".
ليش أنا ما بهرب؟
تبدي رحمة استغرابها من الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام حول هروب العديد من العاملات أو سرقتهنَّ أو قتلهنَّ لأرباب عملهن، " إشي موجود وإشي مش موجود، أنا ما بنكر؛ لإنه مرات البنات سرقوا صح، ولكن في بنت ما سرقوا بقولوا سرقوا".
تؤمن بأن الحريّة لا تعني الانفلات، فمنحها يشعر العاملة بالثقة التي ستحميها وتحافظ عليها، وأنَّ التفاهم هو الأساس لبقاء العلاقة جيّدةً بين العاملات وأصحاب عملهن "أول شي أنا ست بتفكر بمستقبل الأولاد، تاني شي أنا بحافظ على نفسي، ما بدي انو برا خطر عليِّ، تالت إشي أنا رايح جايي من مراكز أو أشوف البنات، ليش أنا ما بهرب؟ أنا حريّة في جوازي معي".
وتغادر العديد من العاملات منازل أصحابهنَّ نتيجة المعاملة القاسيّة أو حرمانهنَّ من النوم أو الاستراحة، أو تعرضهنَّ للتحرش الجنسيّ أو اللفظيّ أو العنف الجسديّ، أو حرمانهنَّ من امتلاك الهاتف للتواصل مع عوائلهن، ؛ ليصدمنَ بعدها بالتعميم عليهن، واتهامهنَّ بجرائم السرقة أو القتل أو الهروب من المنزل.
لماذا تعتقدينَ بأن العاملات لا يطالبن بحقوقهن؟
"رب العمل دائمًا أقوى، ليش؟ أنتِ هون أنا بدفعك، أنا بدفع للمكتب، أعملك إقامة أعملك تصريح، هنه لإنه دفع كل شي فبدي أعامل هاي البنت كعبيد".
تستمر رحمة بالعمل بعيدًا عن أولادها الأربع الذين باتوا يمتلكون مزارع ومنازل خاصةً بهم نتيجة ما ترسله من نقود يحتاجونها، ما جعلها تطمئن على مستقبلهم، إضافةً لزوجها الذي يلّح عليها بالعودة للبلاد؛ لتجيبه بأن يتوقف عن طلبه ويبحثَ عن زوجةٍ له، رغم عودتها المتكررة لإندونيسيا في المناسبات.
"ما في فرق بين عاملة المنزل ورب العمل، هاي نفس الإنسان، اللي في الآخر وين مكانها؟ في القبر"، هكذا تنهي العاملة حديثها آملةً بأن تحظى زميلاتها بالحريّة التي تعيشها دونَ خوفٍ أو قلق، وبعملٍ حرٍ مسؤول.
*بدعم من منظمة صحافيون من أجل حقوق الإنسان JHR