دين المستقبل

دين المستقبل
الرابط المختصر

هل يمكن تخيل دين جديد للإنسانية في مدى طويل الأمد يلزم تحققه قروناً عديدة قادمة؟. لا يتموضع هذا السؤال في عالم الخيال بل في استشراف عالم المستقبل، الذي يساعدنا على فهم حاضرنا. وقبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا الإجابة عن الذي يسبقه؛ ماذا سيحل في الديانات القائمة الآن، هل ستندثر أم ستتغير من شكل إلى آخر؟ وهل ستواكب الإنسان إلى نهاية التاريخ؟

 

يمكن أن نستنجد في التاريخ والقوانين التي تحكم حياة الإنسان والطبيعة ليساعدانا على الإجابة عن السؤال الأخير. فهناك ديانات اندثرت ولم يعد يؤمن بها أحد، أو اندثر أتباعها ولم تعد موجودة إلا في كتب التاريخ، فمثلاً الديانة الأورفلية اليونانية التي دان بها جزء كبير من اليونان ومنهم أفلاطون وسقراط لفترة امتدت من ألف إلى ألف وخمسمائة سنة، اندثرت ولم يعد لها وجود. كما اندثرت الديانة "المانوية" ديانة ماني التي كانت أشبه بخليط ما بين الزرادشتية والمسيحية، ومع أنها انتشرت من بلاد ما بين النهرين حتى وصلت إلى روما، زالت من الوجود بحلول القرن الخامس الميلادي.

والديانة الصبائية تكاد أن تندثر باندثار أتباعها. ويمكننا أن نسمي مئات من الديانات المحلية والعالمية التي سادت لفترة معينة من التاريخ ثم زالت.

 

أما القانون التاريخي الذي يحكمها، فعندما يندثر أصحاب أي ديانة ويضعفون ثم يتناقصون رويداً رويداً تشرف ديانتهم على الاندثار وخصوصاً في تلك الديانات غير التبشيرية التي تحتكرها جماعة معينة ولا تبشر بنفسها في خارج تلك الجماعة لتكسب أتباع جدد فتزول بزوالهم. فالديانة الدرزية مثلاً أو "مشيخة العقل" ستزول حتماً بزوال الدروز واضمحلالهم، فهي ديانة محتكرة ومغلقة على جماعة الدروز.

 

أما القانون الذي يحكم صعود وانتشار ثم انحصار وتبدد ديانة معينة فهو أشبه بالقوانين التي وضعها ابن خلدون في "العمران البشري"، لعصبة بدوية تصل إلى الحكم ثم تعود وتفسد إلى أن تفقده، مع فارق بسيط واحد، أن الديانات التبشيرية مثل المسيحية والإسلام فنعدما تضعف في مكان معين تنقل قوتها إلى في مكان آخر، فعندما ضعفت المسيحية في أوروبا جددت نفسها وقوتها في أمريكا اللاتينية والفلبين وبعض الدول الإفريقية مثلاً، وإذا ضعف الإسلام يوماً ما بين العرب، فسيجدد قوته في باكستان وإيران وأندونيسيا وماليزيا وبعض الدول الإفريقية، وهكذا.

 

إلا أن تصورنا يأخذنا إلى أبعد من هذا الجهد التبشيري ومن ثم أبعد من لعبة تغيير الأمكنة، لنتصور إنسان المستقبل البعيد، إنسان العلم والتكنولوجيا، الإنسان العالمي أو الكوني، الإنسان الذكي الناضج الذي يختار لنفسه ما يرى فيه فائدته ومصلحة العالم الذي يسكنه. وقبل أن نجيب عن نوع من الدين الذي سيعتنقه، لنستشرف معاً محدداته المستقبلية والأشياء التي سيرى أنه عليه أن يراعيها ليعرف كيف يعيش ويحيا على هذه الأرض مع باقي البشر دون إغفال للشروط المادية والحياتية. فإنسان المستقبل إنسان مرتبط بالعلم وبمميزاته وبالتكنولوجيا بالضرورة.

 

إنسان المستقبل إنسان بيئي أيضاً بالضرورة، يحترم الطبيعة والبيئة، فليس لديه خيار في ذلك، فإما أن يهتم ويراعي البيئة والطبيعة، أو يميتها ومن ثم يموت هو أيضاً.

 

إنسان المستقبل إنسان ممجد للحياة الحاضرة ويريد الاستفادة منها قدر الإمكان لأنه يدرك أنها الوحيدة القادر على أن يحياها.

 

إنسان المستقبل إنسان متمسك بحقوقه الفردية والجماعية، بحق المرأة في المساواة، وبحق الطفل في العيش الكريم، وبحق الضعيف والمهمش والمعاق بالكرامة الإنسانية.

 

إنسان المستقبل إنسان مُحترم ومُحب ومُمجد للذكاء الإنساني أكثر منه مُمجداً للطاعة العمياء أو التسليم أو الاستسلام لمعتقدات لم يناقشها.

 

إنسان المستقبل قابل بالتعددية في الوحدة ورافض للأحادية وإقصاء الآخرين والسيطرة، فهو مستعد للحوار ويفهم أن التنوع سيولّد الغني، ولكنه لن يسمح للأحادية المتسلطة أو طغيان فئة على فئة تحت أي شعار.

 

إنسان المستقبل قابل للديمقراطية الحقيقية، تلك التي لا تجعل الأغلبية العددية تسيطر على الأقلية، وتلك الديمقراطية التي تفتح أمام الإرادة الحرة المجال لأن تختار ومن ثم تحترم خيارها دون أن تمس بحرية الآخرين.

 

إنسان المستقبل روحاني يميل إلى ما هو سامي، ويعني أنه يتجه إلى الفن والثقافة والموسيقى ليغني إنسانيته، أما العناصر التي ستجمع الناس في المستقبل واضحة، وهي:

 

العلم والتكنولوجيا، احترام البيئة والطبيعة، الافتخار بالحياة وعيشها، الاهتمام بحقوق الإنسان، تمجيد للذكاء الإنساني والعقل، القبول بالتعددية والحوار، والديمقراطية والإرادة الحرة، وأخيراً الاهتمام بالقيم الروحانية أي بالقيم السامية والثقافة والفنون التي تشبع توقه غير المادي، فإذا كانت هذه ملامحه، فبالتالي ستكون هذه ملامح إنسانية وملامح دينها الجديد.

 

ستحاول بعض ديانات الحاضر أن تتأقلم مع هذه المتطلبات وفقاً لقانون التأقلم الدارويني، وإلا لن يكون لها مكاناً في عالم المستقبل، وأما البعض الآخر الذي سيرفض التأقلم، فسيندثر رويداً رويداً مع عناده، ومحاولته وضع العصي في عجلات عربة التاريخ التي ستتقدم دوماً إلى الأمام، مع أن البعض يمكن أن يراهن على إيقاف هذه الحركة المتسارعة، إلا أن قانون الحركة يقول "أنها الثابت الوحيد"، فالكل في حركة مستمرة، و "الحركة هي القانون الوحيد في الكون".

 

* *عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الدماعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك