خيارات الأردن مع سوريا ما بعد الأسد
تنتظر عمان وحلفاؤها حال المعارضة السورية العلمانية المشككة بنوايا الهيئة، أن ترى أفعالاً على الأرض تعكس أقوال الشرع، الذي يحاول تسويق نفسه كرجل دولة براغماتي، يريد بناء دولة جديدة تتسع للجميع، بعد أن تراجع عن الفكر التكفيري.
جلب رحيل الرئيس بشار الأسد راحة مرحلية لقيادات في الدولة الأردنية، ممن عاشوا الأجواء السياسية والأمنية المتقلبة مع سوريا، خلال عهدي الأسدين على مدى أكثر من خمسة عقود.
تدرك القيادات أن هذه المشاعر مرتبطة بما سيحمله القادم المجهول، من تطورات مفتوحة على كل الاحتمالات، بعدما أطاحت فصائل المعارضة المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، المصنفة كـ”تنظيم الإرهابي” نظام الأسد خلال اثني عشر يوماً، بدون حمام دم، احتمالات تمس الأمن القومي الأردني والإقليمي.
شكا الأردن دوماً من التدخل السوري السافر في شؤونه الداخلية، وحرمانه حصته المائية السنوية في نهر اليرموك، المقدرة ب 375 مليون متر مكعب، وتهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود الصحراوية، وتأرجحت علاقات النظامين بين تأزم، وبزنس عادي، أو علاقات مجمدة. اليوم تراقب المملكة المشهد المتحول بحذر وقلق بالغ.
قال أحد المسؤولين لموقع “درج” إن السلطات الرسمية تحتاج إلى “شهر او شهرين قبل أن تتضح وجهة سوريا الجديدة، وتأثير رحيل الأسد على دول الجوار”.
المكسب السريع للأردن وباقي دول محور الاعتدال العربي، جاء من إزاحة نظام الأسد حليف إيران الحميم، وبعد قيام إسرائيل بتدمير القوة العسكرية لـ”حزب الله” في لبنان، واغتيال قيادات الصف الأول والثاني، ما كسرالعمود الفقري لمحور الممانعة الإيراني ونفوده في الإقليم.
قد يخفف ذلك، الضغط الشعبي الذي شكّله محور الممانعة بقيادة إيران عبر أدواتها المحلية، لضرب مصداقية الأنظمة التي عقدت معاهدات سلام مع إسرائيل، ولا تزال ملتزمة بالحوار للتوصل إلى حلول سياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
بعض الدول العربية تتهيأ الآن لتقديم تنازلات جديدة إشكالية لإدارة دونالد ترامب الجديدة، لتمرير صفقات إنهاء الحروب حول العالم، بأقل الأضرار الممكنة على أمنها واستقرارها.
السيناريو الأفضل للأردن أن تكون عملية انتقال السلطة سلمية، وبمشاركة جميع مكونات المجتمع السوري بمن فيهم الأكراد، وأن يبدأ اللاجئون السوريون مغادرة المملكة والعودة إلى مدنهم وقراهم.
الأهم، أن يتمخض عن المسار الانتقالي للسلطة في سوريا دولة تحترم سيادة دول الجوار وحقوقها؛ بما فيها إسرائيل، بحسب مسؤولين أردنيين تحدثوا الى موقع “درج” بشرط عدم ذكر أسمائهم لحساسية المرحلة.
ثلاث سيناريوهات سيئة
السيناريو الأول الذي يزرع القلق في قلوب من تحدثت معهم هو أن تدخل سوريا في دوامة حرب أهلية ثانية، تفضي إلى موجة تهجير جديدة نحو الأردن، التي كانت تعمل مع نظام الأسد خلال العامين الماضيين، على ترتيبات تدريجية لعودة أكثر من مليون لاجيء سوري إلى مناطق خفض التصعيد.
السيناريو الثاني هو أن يتم استغلال بقايا الجماعات المسلحة التي عادت إلى الجنوب السوري مع قوات النظام و”حزب الله” وميليشياته في العام 2018، لخلق حالة من الفوضى على الحدود تتطلب تدخلاً عسكرياً أردنياً.
أما السيناريو الثالث هو أن تستفيق عمان بين ليلة وضحاها “على جار ديكتاتوري جديد يحمل الفكر التكفيري مدعوم من تركيا، حل مكان ديكتاتور علماني مدعوم من إيران”.
صراع التمثيل الشيعي و “المارد السنّي” ؟
تسعى إيران إلى فرض نفسها كقوة إقليمية مدعومة ببرنامج نووي تحتكر تمثيل الشيعة من خلال أدواتها المحلية “حزب الله” في سوريا ولبنان وقوات “الحشد الشعبي” في العراق والحوثيين في اليمن.
مقابل ذلك، هناك خطاب يمس تركيا وحليفتها قطر، وكلاهما يحتضن “الإخوان المسلمين” وفكرهم الذي يهدد النظام السياسي في الأردن.
تركيا تسعى أن تكون قوة إقليمية، تمثّل نموذجاً علمانياً ذا جذور إسلامية يعكس فكر “الإخوان المسلمين”؛ نجحت في تطبيقه في بلادها، وترغب في نقله إلى الدول ذات الغالبية السنية التي تعاني من تحدي الإسلام الأصولي، لكن ما نجح في تركيا قد يفشل في المنطقة، بسبب اختلاف الأنظمة التعليمية والحواضن الاجتماعية.
كما يخشى المسؤولون الأمنيون في مصر والأردن، من قيام القوى التكفيرية المتنفذة في مجتمعاتهم المحافظة، بالاختباء خلف النموذج التركي واقتناص الفرصة المناسبة لقلب نظام الحكم، كما حدث مع “الإخوان المسلمين” في مصر وتونس، بعد ثورات 2011.
حينها، أي حين وصل الإسلام السياسي للسلطة، تدخلت الدولة المركزية بدعم خليجي لإنهاء حكم الإخوان في البلدين وضرب الحريات العامة، وسُجن العديد من الإخوان في حين لجأ آخرون إلى قطر وتركيا.
في الأردن يشكل التيار الإسلامي تحدياً أمنياً وسياسياً للنظام، لأنه خطابه مناوئ لإسرائيل، وله نفوذ في الشارع المحتقن اقتصادياً والمنقسم ديمغرافياً، وفي الانتخابات الأخيرة، فاز حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين”، بأكبر عدد مقاعد بعكس توقعات الأجهزة السيادية، وأصبحوا الكتلة الأكبر في البرلمان، قبل أن يقوم حزب “الميثاق الجديد” والمحافظ الذي فاز بخمسة مقاعد، بحملة لحشد نواب حزبيين ومستقلين حوّلته إلى أكبر كتلة برلمانية.
الموقف الأردني من الانقلاب السوري
الأردن الرسمي حدد موقفه من الإطاحة بالنظام السوري، وشروط مساندة أي نظام جديد سلمي يمثّل السوريين.
فبعد ساعات على هروب الأسد بطائرته، ترأس الملك عبد الله الثاني اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، أكد فيه “وقوف الأردن إلى جانب الأشقاء السوريين واحترام خياراتهم وإرادتهم”، وشدد على “ضرورة حماية أمن سوريا ومواطنيها، والعمل بشكل سريع وحثيث لفرض الاستقرار وتجنب أي صراع قد يؤدي إلى الفوضى”.
لكن عمان حال حلفائها العرب والأوروبيين، متريثة في الانفتاح على أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام” وأبو محمد الجولاني، الذي قاد فصائل المعارضة المسلحة، وبات اليوم يتصدر المشهد السياسي والعسكري بعد رحيل الأسد، إذ قال أحد الدبلوماسيين الغربيين في مقابلة مع “درج” إن “غالبية الدول العربية والأوروبية تجد نفسها في موقف مماثل، إزاء أزمة التعامل مع الجولاني”، الأخير عاد ليستخدم اسمه الحقيقي أحمد الشرع، بعد استيلاء المعارضة المسلحة على مقاليد السلطة.
أضاف الدبلوماسي الذي رفض التصريح عن اسمه إنه “من غير المعقول أن نتحاور مباشرة مع شخص وتنظيم معاقب، لكن هناك قنوات خلفية ممكن الحديث من خلالها، وتوضيح الاتجاه المطلوب الذي سيسير عليه الشرع أثناء العملية الانتقالية من الآن فصاعدا”.
وختم: “سيكون هناك حاجة إلى الكثير من إعادة الهيكلة، لأن الغالبية من العرب والأوربيين لم تكن مهيأة لذلك”، أي سقوط النظام والتعامل مع الشرع.
الموقف قد يتغير بعد إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أن واشنطن مستعدة للاعتراف بالحكومة الانتقالية التي عينها الشرع برئاسة محمد البشير، لتصريف الأعمال خلال الشهور الثلاثة المقبلة، إلى جانب الإطراء على “الخطوات البراغماتية” التي اتخذها أحمد الشرع.
تتضمن الشروط احترام الأقليات العرقية والدينية، عدم السماح للـ”إرهابيين” بأن يكون لهم موطئ قدم في سوريا، وتأمين الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وتأمين دخول المساعدات الإنسانية الأساسية، والبند الأخير يتطلب الاعتراف بالحكومة التي يديرها.
الملفت أن بلينكن لم يأبه بأن واشنطن صنفت الشرع كـ”إرهابي”، نظراً لعلاقته السابقة مع تنظيم “القاعدة”، وعرضت مكافأة بقيمة عشرة ملايين دولار مقابل أي معلومات تؤدي إلى القبض عليه.
في خضم الحذر الدولي والإقليمي كانت قطر الدولة الوحيدة التي رحبت بالحكومة، وتواصلت معها يوم الثلاثاء بحسب دبلوماسيين.
الأفعال وليس الأقوال
تنتظر عمان وحلفاؤها حال المعارضة السورية العلمانية المشككة بنوايا الهيئة، أن ترى أفعالاً على الأرض تعكس أقوال الشرع، الذي يحاول تسويق نفسه كرجل دولة براغماتي، يريد بناء دولة جديدة تتسع للجميع، بعد أن تراجع عن الفكر التكفيري.
هناك قناعة عند عديد القوى العلمانية أن الشرع راديكالي متطرف، انسلخ عن تنظيم “القاعدة” الإرهابي، لكنه لا يزال يحمل أفكاره، وكل حركات التغيير والانفتاح في سلوكه؛ بحسب ما يقدّم في مقابلاته التلفزيونية ولقاءاته العامة، عبارة عن أمر مرحلي ريثما يمسك بمقاليد السلطة.
ثمة مؤشرات على تخبط الشرع توقف عندها مراقبون، عندما أجرى أول مقابلة مع الإعلام الغربي، اختار القناة الأمريكية “سي إن إن”، وأجرت المقابلة معه صحافية أميركية أردنية مسيحية، وهي تضع غطاء رأس رمادياً غطى نصف شعرها بناء على اقتراحات مستشاريه، النصائح التي تلقاها أدت إلى تراجعه عن موافقته لها بمقابلته من دون غطاء رأس عندما سئل عن البروتوكول المطلوب.
خلال المقابلة حرص على تقديم ماضيه مع “القاعدة” و”داعش” بوصفهما ب”حقبه ولّت من حياته”، وابتعد عن الخطاب العقائدي، وقال إنه يسعى اليوم إلى تحرير سوريا فقط، وانتقد إقصائية الأسد وفساد منظومته، وقال إن مستقبل سوريا لن يحدده شخص يحكمها، إنما مجلس شورى يصوغ دستوراً ولوائح تنظيمية لإدارة شؤون البلاد. ولفت إلى أن “هيئة تحرير الشام، مجرد وسيلة يمكن الاستغناء عنها عندما تنتهي وظيفتها”.
يقول سوري علماني معارض مقيم في فرنسا إن “الشرع غير منسجم في تصرفاته”، عندما دخل وقواته العاصمة دمشق، اختار أن يؤدي صلاته الأولى في المسجد الأموي؛ بحسب ما قام به الخلفاء الراشدون عند الفتوحات، لم يفكر بالظهور من على منبر جامعة أكاديمية للحديث مع طلبة يمثّلون أطياف المجتمع.
اختار الشرع أيضاً رئيس الحكومة الانتقالية من دون أن يشاور أحداً، جاء بشخص مقرب منه ويثق به، لم يأتِ بشخصية سياسية مستقلة نزيهة ومعروفة على نطاق سوريا، خدمت في الحكومة المركزية سابقاً، وتعرف مفاتيح إدارة الدولة.
شغل البشير منصب وزير التنمية والشؤون الإنسانية في حكومة الإنقاذ في إدلب عامي 2022 و 2023، قبل أن يصبح رئيس وزرائها مطلع العام الحالي.
الحكومة الانتقالية التابعة للهيئة والفصائل المسلحة المنضوية تحت رايتها، كانت تدير مدينة أدلب وريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي، بتركيز على الجانب الخدمي.
تحت قيادته، أقامت “هيئة تحرير الشام” حكماً مستنداً إلى تفسير متشدد للشريعة الإسلامية في إدلب، وأسست محاكم وقوات شرطة وهيئات إدارية، وقمعت مظاهرات شعبية نددت بحكمها، ووردت تقارير واسعة النطاق تتهم الهيئة بممارسة التعذيب ضد المعتقلين، وقد نفى الجولاني هذه الاتهامات، داعياً منظمات حقوق الإنسان إلى زيارة السجون وتفقد الأوضاع بنفسها.
ويتساءل عدد من السوريين العلمانيين ما إذا كان الشرع سيغير النظام الذي طبقه في إدلب، من خلال تطبيق حكم إسلامي يحترم العادات والتقاليد، وليس وفقاً لمعايير الدولة الإسلامية؟.
الوضع في الجنوب السوري بعد رحيل الأسد
يخشى الأردن من قيام خلايا نائمة من بقايا الميليشيات السورية والإيرانية، التي تورطت في تهريب مخدر الكبتاجون عبر الحدود الجنوبية مع الأردن، بشن عمليات انتقامية ضد حرس الحدود الذي قتل العديد منهم.
منذ عودة قوات النظام إلى الجنوب قبل ست سنوات، ارتفعت حرارة المواجهات بين الأردن ونظام الأسد. ووجد حرس الحدود الأردنيون تطوراً نوعياً في طرق التهريب والأساليب القتالية وكميات الحبوب المخدرة، لدى عصابات المهربين بحماية الفرقة الرابعة النخبوية وميليشيات تابعة لإيران.
وبات تصنيع المخدرات في سوريا والاتجار بها وتهريبها من خلال منافذ مطلة على البحر الأبيض المتوسط وعبر الصحراء الأردنية، يشكل مصدر دخل رئيسي للرئيس الأسد وشقيقه ماهر، بعد فرض عقوبات قيصر على سوريا.
وقالت مصادر رسمية إن الأردن الذي دفع بتعزيزات عسكرية لمساندة حرس الحدود بعد الإطاحة بالأسد، يتواصل مع قوى الأمر الواقع في محافظتي درعا والسويداء عبر قنوات خاصة لرصد المشهد.
منها التواصل مع “شباب السنة” بقيادة أحمد عودة و”اللجنة المركزية” بقيادة أبو مرشد البردان في درعا، لأنهما الفصيلان الأقوى عسكرياً، وتوحدا لإدارة الشؤون المحلية.
إضافة إلى ذلك، يسيطر على السويداء ويدير شؤونها الأمنية، مجموعة من الفصائل المسلحة التي تحالفت معاً من خلال غرفة عمليات مشتركة، أبرزها “رجال الكرامة” و”لواء الجبل” و”تجمع أبناء الجبل”، ومعها مجموعات مسلحة من العشائر، بحسب تمام الصحناوي أحد مؤسسي موقع “السويداء 24” الإخباري.
القوات الإسرائيلية اجتاحت محافظة القنيطرة المجاورة واحتلتها علاوة على احتلال سلسلة من جبالها المطلة على مناطق واسعة من سوريا تمتد إلى جبال لبنان، بعد رحيل الأسد، في خطوة استباقية تريد منع بقايا قوات النظام والميليشيات الشيعية من التسلل إلى المناطق الحدودية، لأن اتفاقية فك الاشتباك بين القوات المسلحة في البلدين لعام 1974 لم تعد قائمة، بعد رحيل نظام الأسد.
يقول الصحناوي إنه يحلم بقيام دولة قائمة على أسس المواطنة والعلمانية تتسع للكل “بعد ما حصل عندي تخوفات كبيرة وكبيرة أننا ذاهبون إلى المجهول”، خاتماً “نحن اليوم أمام سوريا ممزقة من تداعيات الحرب الأهلية، فيها قوى أمر واقع في كل المناطق، لكن ما مدى شرعيتها؟ ونوع حواضنها؟ يا ريت قوة واحدة استولت على الحكم”.
*المصدر: درج