خطّة نتنياهو: احتلال غزّة ولا دولة فلسطينية

الرابط المختصر

لا يرى رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سوى خطّة واحدة لقطاع غزّة، وهي قيد التنفيذ؛ وتقضي بفرض الاحتلال الإسرائيلي المباشر عليه، من دون كينونة فلسطينية ولو ممسوخة، ولا يأبه بأيٍّ من السيناريوهات الأميركية. على الفلسطينيين مواجهة هذه الخطّة، علماً أن كل الخطط الأميركية المعلنة تؤدّي إلى النتيجة نفسها، وإن اختلف الشكل، فسيناريوهات "اليوم التالي" الأميركية تسعى إلى توفير غطاء شرعي لعودة سيطرة إسرائيلية مباشرة؛ لذا يتحدّث المسؤولون الأميركيون عن "تغيير هيكلية السلطة الفلسطينية وتشكيلتها"، لأن واشنطن تريد تسويق وهم إقامة دولة فلسطينية لاستكمال عملية التطبيع العربية الإسرائيلية.

لا يكترث نتنياهو، ولا يريد أيَّ شكل للدولة الفلسطينية، وهو يعود إلى أدوات الاستعمار القديم، إذ تسعى خطّته إلى تشكيل إدارة محلية، أي لا يريد سلطة لديها امتداد عربي أو عالمي، حتى لو كانت طيِّعة خانعة، وقد كان صريحاً وواضحاً في رفض الهوية الفلسطينية ويريد القضاء عليها.

أعلن نتنياهو إنكاره الرسمي الهوية الفلسطينية وهوية الوطن الفلسطيني قبل "طوفان الأقصى"، حين أشهر خريطة إسرائيل من البحر إلى النهر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، ولا يوجد لديه سوى هدف واحد؛ وهو دولة إسرائيل على كامل أرض فلسطين التاريخية. وعليه؛ تصبُّ الوثيقة التي كشف عنها، بشأن مستقبل قطاع غزّة وتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح وإغلاق الحدود مع مصر، في هدفه الأساس؛ "دولة يهودية إسرائيلية من النهر إلى البحر". والمفارقة هنا أن نتنياهو يقدّم نفسه أمام العالم رسولاً يكمل مهمّة الاستعمار بشكليه القديم والجديد، في الوقت الذي تشهد محكمة العدل الدولية أهم إدانة قانونية تاريخية لأشكال هذين الاستعمارين، والقديم منهما يستفزّ ذاكرة الشعوب التي عانت وخاضت نضالاً تحرّرياً مريراً ضد الاستعمار والفصل العنصري، مما ذكّرت ممثلة ناميبيا، يافونني دايساب، أمام المحكمة به بالقول: "نحن شعبٌ عانى الاستعمار والفصل العنصري تماماً كما يعاني الفلسطينيون. وعليه، لن ندير وجهنا عنهم".

يفتخر نتنياهو بدوره الاستعماري، فهو مصدر قوته ويعزّز دور الصهيونية في خدمة الغرب، وينظر إلينا متوحّشين عليه ترويضهم، وهو لا يختلف، في تفكيره وموقفه وممارساته، عن المستوطنين الأوروبيين الذي سبقوه في نهب الشعوب. الفرق بينه وبين منظّري الإدارة الأميركية أنهم يريدون صورة "أكثر حضارية" لاستمرار (وترسيخ) الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتهايد تحت شعار "السلام الموهوم"، فمسألة إقامة كينونة فلسطينية ممزّقة منزوعة السلاح والسيادة تهدف إلى تمكين استمرار المشروع الكولونيالي الإحلالي الصهيوني، لا وقفه، فضلاً عن إنهائه.

يزعج طرح نتنياهو الذي ينفذه على الأرض البيت الأبيض في فجاجته، لكن الإدارة الأميركية لا تحاول وقفه، وإنما تلطيفه

لذا؛ نجد بعض الصهاينة الأميركيين، مثل مارتن إنديك والمراكز الصهيونية الأميركية، مشغولة بنقاشات بشأن ضمان "خطوات (أو أسس) الدولة الفلسطينية"، باعتباره الشرط أو المطلب العربي حتى تستمرّ حلقة التطبيع مع إسرائيل، لكن هذه الأسس التي يجري الحديث عنها، في جوهرها، شروط لسيطرة إسرائيلية كاملة تحاول الإدارة الأميركية صياغتها بمختلف المسمّيات، إلا أن الهدف هو ضمان استمرار المشروع الصهيوني، ويتطلب ذلك كسر عزلة إسرائيل ووقف الإدانة الأخلاقية العالمية الآخذة بالاتساع، أكان من خلال جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية أو على منصّات التواصل الاجتماعي وفي المظاهرات والأغاني التي تصدح لفلسطين الحرّة في الساحات والميادين بعواصم العالم ومدنه، فنرى أنّ مراكز صهيونية مؤثرة، مثل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، يصبح داعية لحلّ الدولتين، لأنه شعار مطلوب، وليس بصفته هدفاً حقيقياً، إذ تجب التغطية على حرب الإبادة في غزّة وتبرئة إسرائيل منها بالتظاهر بالحرص على مستقبل الشعب الفلسطيني.

 

قد تختلف مثل هذه المراكز مع نتنياهو شكلاً، لكنها تتّفق في ما تطرحه مضموناً، فهي تريد (وهذا الخط أقرب إلى البيت الأبيض) سلطة فلسطينية معدّلة لا تدفع رواتب لأهالي الشهداء والأسرى، ولا تذهب إلى محاكم دولية، وعليها أن تغيّر نظامها الدراسي من حكاية النكبة أو ذكرى مجازر إسرائيلية بحقّ الفلسطينيين أو قصة شهيد أو أسير أو مناضل، جزءاً من عملية القضاء على الذاكرة الفلسطينية.

ولا تتعلّق خطّة نتنياهو بإدارة غزّة فحسب، بل أيضاً بقطع دعم الإغاثة عن الشعب الفلسطيني، خصوصاً في القطاع المنكوب ومخيمات اللجوء، فقد خصّص بنداً في وثيقته لإغلاق وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فالتخلص منها يصبّ في هدف التجويع والحرمان من التعليم ويخدم الخطة الأوسع لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة، وفي مقدّمتها حق العودة للاجئين. هذا ما يريده، ليس نتنياهو فحسب، بل اليمينيون وقطاع واسع من المجتمع الإسرائيلي، فالمطلوب احتلال مباشر ينظّم من خلال "إداريين محلّيين" منسلخين عن أي مؤسّسة فلسطينية، لتنفيذ مجزرة القضاء على الذاكرة الفلسطينية في غزّة بعد تدميرها، وتطبيق ذلك على الضفة الغربية، بعد أن جرى توسيع الاستيطان، كما أعلن نتنياهو، كي لا تبقي مساحة على الأرض لأي شكلٍ من الكينونة الفلسطينية.

لا مبرر للتواطؤ مع أي خطة تسمح لإسرائيل بالاستمرار في حرب الإبادة والتجويع تحت شتى السيناريوهات الأميركية

يزعج طَرحُ نتنياهو الذي ينفذه على الأرض البيت الأبيض في فجاجته، لكن الإدارة الأميركية لا تحاول وقفه، وإنما تلطيفه، فمهما غضب الرئيس الأميركي، جو بايدن، من تعالي نتنياهو وغطرسته، فالضغط على إسرائيل أو عقابها ما يزال خطّاً أحمرَ داخل المؤسسة الأميركية، وإن تعالت الأصوات بشكل غير مسبوق لوقف تسليم إسرائيل السلاح بدون شروط. وهذه أيضاً مشكلة للإدارة الأميركية، خصوصاً أن نتنياهو يستقوي باليمين المتطرّف، مع انحياز المجتمع الاسرائيلي إلى التطرّف، فالمجتمع الإسرائيلي المؤدلج بالفكر الاستيطاني الفوقي العنصري يريد القضاء على"الآخر" الفلسطيني، لأن البديل هو الاعتراف بجريمة المشروع الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

ما كشف عنه نتنياهو خطّة لما بعد الحرب في غزّة هو ما تصبّ فيه كل السيناريوات التي نقرؤها أو نسمع عنها، المطلوب هزيمة الشعب الفلسطيني، وليس "حماس" وفصائل المقاومة فقط في غزّة، وإن اختلفت المسميات. والمهم، فلسطينياً وعربياً؛ عدم الانجرار إلى قبول أيٍّ من السيناريوهات الأميركية المعلنة وغير المعلنة بحجّة مواجهة نتنياهو، فالمطلوب، مرّة ثانية وثالثة وعاشرة، رؤية فلسطينية موحّدة تواجه هذه المخطّطات، فالثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في غزّة لا يمكن تصوّره، والتقصير هو هدر لدماء الضحايا ودموع الثكالى.

لا مجال هنا ولا مبرّر للتواطؤ مع أي خطّة تسمح لإسرائيل بالاستمرار في حرب الإبادة والتجويع تحت شتّى السيناريوهات الأميركية التي ترفض جهاراً، بل تعطّل وقف إطلاق النار في غزّة، وتعمل على أن تبتزّ "حماس"، لأنّ استمرار الحرب، ولو بوتيرة أبطأ، يضمن انتصار المشروع الصهيوني.