"خزائن": أرشفة التاريخ الاجتماعي الفلسطيني
وقّع العديد من المخاتير وأعضاء المجالس الاختيارية في قرى وبلدات فلسطين على عريضة (رسالة) موجّهة إلى الباب العالي في إسطنبول مؤرخة في التاسع والعشرين من تموز/ يوليو 1913، ضد الاستيطان الصهيوني، بعد عشرات الرسائل التي بدأت تصل إلى السلطات العثمانية بدءاً من عام 1882.
تُنشر هذه الوثيقة، التي جاءت بعد المواجهات التي نشبت بين سكان بلدة عيون قارة الفلسطينية وحراس مستوطنة "هشومير" (تأسست عام 1900) وأسفرت عن سقوط شهيد وعدة جرحى، على موقع مدونة "خزائن" (www.khazaaen.org)، مع شروحات تشير إلى "تنسيق قروي واضح ومنظّم في مواجهة الخطر المحدق"، والذي لم ينل حظه من التأريخ بعد.
تحتوي المدوّنة على أرشيفات تحفظ المنشورات اليومية وتوثق تفاصيل الحياة اليومية كما عايشها الناس ببساطتها وغزارتها، حيث تُجمع ملصقات ومنشورات ومطويات وإعلانات تجارية وثقافية وبطاقات عمل ودعوات أفراح وغيرها، لتشكّل ذاكرة لـ المجتمع الفلسطيني بأكمله، وتكشف الكثير من الحقائق التاريخية والتحولات والتبدلات الدقيقة من خلال التاريخ الاجتماعي.
يضمّ أكثر من 80 ألف مادة توثق الإرث الفلسطيني والعربي
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول الباحث والمؤرشف الفلسطيني فادي عاصلة، مؤسّس ومنسّق مبادرة "خزائن"، إن "الأرشيف هو خزّان الذاكرة، والمساحة التي يمكن من خلالها إعادة تركيب السردية التاريخية للماضي، وفي الوقت ذاته هو صناعة ذاكرة المستقبل؛ المرجع الذي ينبّه الوعي، ويسند الذاكرة ويوفّر المعرفة لشتّى الدوائر والحقول".
رسالة من المخاتير وأعضاء المجالس الاختيارية في فلسطين موجّهة إلى الباب العالي في إسطنبول عام 1913 ضد الاستيطان الصهيوني
ويضيف: "في السياق الفلسطيني، وفي ظلّ الخطر اليومي الذي يواجه الإنسان والمكان، يصير الأرشيف مساحة لا غنى عنها في حماية الإنسان وذاكرته، في توثيق حقه ورواية قصته"، مبيناّ أن "هناك وعياً أرشيفياً فلسطينياً عالياً، وهناك تحدّيات تأسيسية وأسئلة صعبة يفرضها الواقع المعيش، نظراً للحصار الذي يعيشه الفلسطيني والمعوقات التي يخلقها الاحتلال لعرقلة التنظيم الفلسطيني وخنق مصادر الدعم".
تأسست "خزائن" بوصفها مؤسسة مستقلة غير ربحية، مركزها مدينة القدس- حيّ الشيخ جرّاح، في تشرين الأول/ أكتوبر 2016. ويرى عاصلة أن المشروع عكَس "ضرورةً فرضها السياق العربي والفلسطيني، وما شهده من ثورات وانتفاضات ومتغيرات محلية واقليمية، استدعت بناء مشروع يوثق كل هذه المتغيرات - آلاف المواد تضيع يومياً من دون أن ينتبه أحد إليها أو يعيرها اهتماماً، لكنها تحوي توثيقاً لمناطق وأشخاص ولتفاصيل قد لا نجدها في أي مكان لاحقاً - لكي تكون متاحة ومتوفرة للجميع، بحيث يمكن معاينتها، ومراجعتها والمراكمة عليها لتكون مرجعاً مفتوحاً دوماً للجميع".
الصورة
لحن قصيدة "موطني" الأخوين فليفل ضمن كتاب خاص احتوى على مجموعة من الأناشيد من ألحانهما نُشر عام 1936
اتخذت "خزائن" من أرشفة المواد قصيرة المدى (Ephemera) موضوعاً لها، أو التي تُطبع لمرة واحدة، ما يميز هذه المنشورات، هو أنها تحاكي المجتمع والناس العاديين، وفق عاصلة الذي يشير إلى أن أرشيفها يكمّل عمل الأرشيفات الأُخرى ولا ينافسها؛ ففي فلسطين والعالم العربي ثمة أرشيفات عديدة متخصصة في الكتب، والمجلات، والدوريات، والمخطوطات، ولكن لا يوجد أي أرشيف يوثق ما ينتجه الناس من مواد تبدو لأول وهلة بلا قيمة: كالملصقات، والمناشير، والبيانات، والدعوات، وبطاقات العمل، وبطاقات التهنئة، والمطويات.
ليس وقوفاً على الأطلال، بل عودة لأجل الفهم والاستقصاء
ويتابع في حديثه لـ"العربي الجديد": "كنا نحلم بمساحة في القدس تحفظ الإرث الفلسطيني وتحميه، وتوفّره للباحثين والمهتمين. كنا نعرف كَمّ التحديات، وحجم المخاطر، خاصة في مدينة كالتي نعيش (القدس). لكننا انطلقنا لأن الضرورة مُلحّة، ومن يصغي للمخاوف سيظل يراوح مكانه. ولم نكن نتوقع أن كلّ التوجسات والمخاطر ستتبدّد بدعم الناس وإقبالهم وحضورهم. فخلال أشهر، تواصل معنا العشرات من فلسطين والأردن ولبنان وسورية والعراق والخليج العربي وبلدان المغرب العربي، وانهالت علينا مئات المواد، والمئات صارت بعد سنين أكثر من 80 ألف وثيقة توثق الإرث العربي والفلسطيني خلال مئتي عام".
خبر عودة الشاب انطون داود فلسطين عام 1933 ليشترك في الثورة الفلسطينية، والذي سيواصل نضاله ضد الصهاينة قبل التحاقه بالثورة الكوبية مع كاسترو وغيفارا
وينبّه أيضاً إلى أن "خزائن" ترى أن العودة للماضي هي عودة ملحّة، ليس تغنّياً به ولا وقوفاً على أطلاله، بقدر ما هي عودة لأجل الفهم والاستقصاء: "عودةٌ نقف من خلالها على أسباب الإخفاق ومكامن الخلل ومواضع القوّة، نحو بناء الحاضر وتجاوز عثراته، إذ تكمن أهمية جمع هذه المواد في كونها مرجعاً مهماً للباحثين والجمهور العريض لفهم ودراسة الحياة الاجتماعية، والإحاطة بالمتغيّرات الثقافية والاجتماعية في فلسطين والدول العربية، والتي لا يمكن أن يغطّيها كتابٌ أو صحيفةٌ أو مجلّةٌ فهنالك العديد من القصص والأحداث التي حصلت، ولكنها بقيت محفوظة في أذهان من عاش تلك الفترات، حيث تقوم 'خزائن' بتوثيق الذاكرة الشفوية التي لم تُكتب بعد".
ينقسم المشروع إلى "الأرشيف العثماني"، ويضمّ وثائق تمثّل الفترة الممتدّة بين عاميْ 1615 و1917، و"أرشيف الحقبة الانتدابية" (الاحتلال البريطاني) الذي يوثّق المرحلة اللاحقة وصولاً إلى نكبة فلسطين عام 1948 (الاحتلال الصهيوني)، و"أرشيف المنشورات الفلسطينية"، وفيه وثائق تمثّل الفترة التي تمتّد إلى اليوم، وتصنَّف في مجالات متنوّعة سياسية واجتماعية وثقافية وفنية وتربوية واقتصادية وتجارية وصحافية ومعاملات رسمية وإعلانات وغيرها.
بخصوص رؤيته المستقبلية، يوضّح فادي عاصلة، لـ "العربي الجديد"، أنّ المشروع يسعى إلى تطوير الموقع وضخه بالآلاف من المواد، إضافة إلى إطلاق ورشات تدريبية تمدّ الشباب بمعارف ضرورية في هذا الحقل، لزيادة أعداد المُلمّين بهذا المجال، كما يهدف إلى كتابة وتطوير كتيب حول أساسيات الأرشفة يكون مرجعاً للمهتمين، وبموازاة كل ذلك "نسعى لاستيعاب آلاف المواد الأرشيفية التي لم نستطع استيعابها في السابق نظراً لمحدودية قدراتنا على مستوى الموارد البشرية والمادية، وعليه نسعى للتغلب على هذه المصاعب".
يُذكر أن تسمية "خزائن" "جاءت من معنى كلمة خزائن في الحضارة العربية والإسلامية، في إحالة إلى "خزائن القيروان" و"بيت الحكمة"، وتهدف بشكل أساسي إلى توثيق الطبقات المهمّشة في المجتمع التي لم يسلّط عليها الضوء في التأريخ الرسمي، أي أنها عملية توثيق للتاريخ من الأسفل، كما أن آلية العمل في المشروع يقوم على فكرة التشارك المجتمعي لبناء الأرشيف بجهود تطوّعية فردية، حيث توجد زاوية بعنوان "أرشيف الناس"، وكلّ خزانة في هذه الزاوية تحمل اسم مانح المواد.
*المصدر العربي الجديد