حين يقرأ الملك تقرير "حقوق الإنسان"

الرابط المختصر

بعد طول انتظار أطلق المركز الوطني لحقوق الإنسان تقريره السنوي الخامس عشر عن حالة حقوق الإنسان في الأردن. يأتي هذا التقرير بعد أشهر قليلة على إعادة تشكيل مجلس أمنائه، وبعد أن تحول مقره إلى وجهة لبعض النشطاء والمُحتجين وما يسّمون "الحراكيون" لتقديم مظلماتهم وشكاواهم على انتهاكات لحقوقهم، وخاصة حالات الاعتقال والتوقيف على خلفية قضايا حرية التعبير والتجمع السلمي.

 

أكثر ما يميز ويلفت الانتباه إلى تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان أنه وثيقة حقوقية من الصعب على الحكومات، أو أجهزة إنفاذ القانون، التشكيك بها أو النيل من مصداقيتها، أو "شيطنة" مُصدرها، والقول إن "أجندة" مُعادية للدولة تقف خلفها، أو تُوجه وتأتمر من الحكومات الغربية والمؤسسات الدولية؛ مثلما يجري "شيطنة" مؤسسات المجتمع المدني، فالمركز الوطني لحقوق الإنسان ـ ببساطة ـ جزء لا يتجزأ من مؤسسات الدولة، ويُعبر عن إرادتها برقابة وحماية حقوق الإنسان في البلاد.

 

تقرير المركز الوطني ينطق بالواقع الصعب الذي يمر بالأردن، ويُشخص بجرأة أزمة حقوق الإنسان، ويسرد ويوثق الكثير من الانتهاكات التي تقع وتحدث، ويضع الإصبع على الجرح لمكامن الأزمات التي تتناسل. قراءة التقرير تشي وتكشف الأزمة البنيوية المُربكة والمُرتبكة لحالة البلاد.

 

يتوقف التقرير عند المفاصل التي تحتاج إلى معالجات، وإن كان التقرير لطيفا ودبلوماسيا أحيانا في الحديث عن بعض الانتهاكات؛ إلا أنه كافٍ ليقرأه صاحب القرار، وأركان الدولة ويتعرفوا بوضوح على حجم الأزمة، والهوة، والمألات القادمة إن لم يتحركوا بجدية وبصدق لوقف التراجع في حالة حقوق الإنسان.

 

ما يُميز تقرير المركز الوطني أنه وثيقة يصعب على الحكومات شيطنة مُصدرها

يعترف التقرير من السطر الأول بالأزمة، فـيُقرّ أن الأردن يشهد ظروفا صعبة ودقيقة ربما لم يشهد مثلها منذ تأسيس الدولة قبل قرابة القرن، ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الظروف غير المسبوقة في المزاج الوطني، وفي حالة حقوق الإنسان في البلاد عام 2018، وكما هو الحال في الأعوام السابقة.

 

ويُكمل "حالة من القلق والإحباط تسيطر على المجتمع وسط أجواء من الترقب والانتظار لشيء قادم، وجُله عكس ما يتمناه ويطمح إليه المواطن، وقد يُطيح بكل آماله وطموحاته".

 

بمعزل عن تفاصيل الانتهاكات الواقعة على الحقوق المدنية والسياسية، وكذا الأمر على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن التقرير يُفصل في تشخيص حالة الإخفاق في الإصلاح السياسي، واللجوء والاعتماد على المقاربة الأمنية بشكل لافت؛ مما أدى إلى وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان من قبل أجهزة إنفاذ القانون في ظل غياب إشراف وسيطرة الإدارة المدنية السياسية على الأجهزة الأمنية.

 

وبسبب الاعتماد على المقاربة الأمنية للتعامل مع الأزمات والتحديات؛ يتحدث التقرير عن انتهاكات ارتكبت من أجهزة إنفاذ القانون، مثل عدم الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة للمحتجزين، وطول مدة التوقيف، والتعسف باستخدام السلطة، وتحديدا في التوقيف الإداري غير القانوني، والمعاملة القاسية واللاإنسانية، وحتى التعذيب.

 

التوسع في دور جهاز الأمن العام عام 2018 جاء في سياق مقولات استعادة "هيبة الدولة" وتطبيق القانون، ومحاربة الجريمة، وحماية أمن المجتمع، وهو ما أدى إلى رفع الصوت للتحذير من عودة "العقلية العرفية"، واختلال معادلة الأمن والحرية، والتشكيك بوجود دولة المؤسسات في الأردن، والمُطالبة بالسيطرة المدنية على الأجهزة الأمنية ـ حسب وصف التقرير.

 

حقوق الإنسان في الأردن تنتظر انطلاقة فعلية

يرى التقرير في مقدمته بوضوح أن حقوق الإنسان في الأردن لا تزال تنتظر انطلاقة فعلية، وأن هناك فجوة بين الخطاب السياسي وبين الممارسة الفعلية المُتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.

 

ولا يتردد التقرير من طرح أساسيات للتوافق، كـمقدمة للإصلاح السياسي، أبرزها إعادة تعريف العلاقة بين الملكية والشعب، وعلاقة النظام السياسي بالمجتمع، ومكانة الدين في الحياة العامة أو طبيعة الدولة المدنية المنشودة، والعلاقة الواضحة بين السلطات الثلاثة، واستقلال السلطتين التشريعية والقضائية.

 

ولا يُهمل التقرير ما يعتبره خطوات نحو الانفتاح السياسي والتعددية ـ ولو كانت محسوبة ـ، ويتساءل إن كان مثل هذا التوجه لو استمر ولو بوتيرة متأنية ومدروسة؛ لكان سيؤدي غالبا إلى قيام نظام سياسي ديمقراطي يضمن تحقيق العدالة والحرية، لكن التقرير سرعان ما يعود للاعتراف أن الانطلاق نحو الإصلاح السياسي وضمان الحريات تعرضت لانتكاسة بصرف النظر عن النوايا، والتوجهات الإيجابية للحكومات المتتالية، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن الحالة العامة في البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بلغت مرحلة حرجة من حيث التضييق على الحريات العامة، وهو ما عمّق الفجوة بين المواطن والدولة.

 

مُعاينة المشهد واضحة، ومجهر المركز الوطني لحقوق الإنسان أماط اللثام عن كلام لا تُفصح عنه أجهزة الدولة، ولا تقف أمام استحقاقاته.

 

■■■■■■■■■■■

 

تفاصيل الانتهاكات في تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي يقع في 262 صفحة، يُعزز المقدمات التي تؤشر إلى تراجع حالة حقوق الإنسان، فشكاوى التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة بلغت 332 قضية، أحيل منها فقط 10 قضايا لمحكمة الشرطة، في حين تقرر منع المحاكمة للمشتكى عليهم في 240 قضية، وهو ما يُعيد إنتاج مسألة الإفلات من العقاب.

 

مُغادرة مربع الأزمة يتطلب من الحكم القطع مع عقلية ومنظور الاستبداد

يسلط التقرير الضوء على استمرار التعدي على استقلالية القضاء، باستمرار الحكام الإداريين "المحافظين" بإصدار قرارات التوقيف الإداري في عام 2018، إذ بلغت حالات التوقيف 37683 بالاستناد إلى قانون منع الجرائم المتبع منذ عام 1954، ورغم الانتقادات المستمرة من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية، فلا زالت الدولة تتمسك به وتستخدمه.

 

أكثر ما هو لافت في عام 2018، كان تزايد إصرار الناس على الاحتجاج تعبيرا عن رفضهم للقوانين والإجراءات الحكومية التي تمس بمصالحهم ومعيشتهم، ولهذا فإن التقرير يرصد توقيف 19 شخصا ممن شاركوا بوقفات احتجاجية، ويشير إلى تنامي القضايا التي أقيمت وحُركت من شخصيات عامة على ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بلغت 1821 قضية أوقف بسببها 161 شخصا، بالرجوع إلى قانون الجرائم الإلكترونية، والذي تُتيح مادته الـ (11) جواز التوقيف والسجن، في حين بلغ عدد الذين أقيمت عليهم دعاوى قضائية بجرائم تتعلق بحرية التعبير وفقا لقانون العقوبات 757 أوقف منهم 130 شخصا.

 

يحفل التقرير بسرد للانتهاكات التي وقعت على كافة الحقوق ومن الصعب عرضها جميعا، لكنه أيضا لا يُغفل إرهاصات إيجابية هنا وهناك لمحاولات الحد من هذه الانتهاكات، والإصغاء أحيانا للمطالبات الشعبية التي تُطالب بسحب بعض القوانين المُقيدة للحريات وتعديلها مثلما جرى مع مشروع قانون الجرائم الإلكترونية.

 

الإصلاح السياسي والحريات تعرضا لانتكاسة

تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان رغم قسوته وتشاؤمه؛ فإن استمرار صدوره عن مؤسسة وطنبة يُعتبر عنصر قوة للأردن، ويُعطيها حق التفرد عن مُعظم "الجوار العربي" التي تعاني شعوبها انتهاكات دموية، ويُزج بالمدافعين والنشطاء في السجون، وتقطع الدماء التي تسيل شعرة معاوية بين أنظمة حكم مُستبدة وشعوبها.

 

هذه المقارنة السردية ليست لغايات التجميل، أو إعطاء غطاء، أو مبررات لانتهاكات تقع في الأردن، وإنما للتأكيد أن الفرصة ما تزال سانحة لمعالجة الأخطاء، ووضع حد للانتهاكات، ومساءلة مرتكبيها، ومنع إفلاتهم من العقاب.

 

مأزق حقوق الإنسان في الأردن لا ينفصل عن مأزق الإصلاح السياسي، ومغادرة مربع الأزمة يتطلب من الحكم القطع مع عقلية ومنظور الاستبداد والفساد، والعبور والولوج إلى مسار وحيد لا ثاني له، وهو ديمقراطية النظام والسلطة؛ باعتماد نهج حقوق الإنسان سبيلا ومنقذا.

 

حين يقرأ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني التقرير الصادر عن مؤسسته الوطنية لحقوق الإنسان، سيعرف ويُدرك غضب الناس في الشارع، ولا يحتاج إلى خارطة طريق ليصحح المسار، يكفي أن يوعز لحكومته وأجهزته الأمنية أن يضعوا حدا فوريا لهذه الانتهاكات؛ ليخرج الأردن من أزماته معافا، ويصنع طريقا مختلفا، و"ربيعا" حقيقيا طال انتظاره.

*الحرة