حينما يصبح الاستثناء أصلا

17 إصابة بالفيروس
الرابط المختصر



 لم يعد لصوت صافرات الإنذار وقعها المعهود مع بداية حالة فرض حظر التجول، كما لم تعد أوامر الدفاع من المستغربات التي تسترعي ذات الانتباه الذي كانت تحظى به  منذ أسابيع، بل لم تعد الإيجازات الصحفية اليومية تحظى بذات العدد من المشاهدات والتعليقات التي كانت تعج بها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. الأزمات وتدابير إدارتها مثل كل شيء في هذا العالم، تبدأ بوهج وضجيج سرعان ما يخبوان ليفرض الواقع الذي سيعيشه الناس نفسه مدةً من الزمن قد تقصر وغالباً ما ستطول.



 حالات الإصابة التي تسجل يومياً في الأيام الأخيرة قليلة جداً وجلها إن لم يكن كلها لعابري الحدود من السائقين القادمين من دول الجوار، الأمر الذي يبعث ولا ريب على شيء من الطمأنينة لدى عامة الناس. حالة الطمأنينة هذه يجب أن تفهم في سياقها ومتطلبات استمرارها، إذ أن أجواء الاستقرار الوبائي الذي نعيشه هذه الأيام لا يعدو أن  يكون سيطرة على وتيرة تفشي الوباء وليست سيطرة على الوباء نفسه، بعبارة أخرى لقد نجحنا في الحيلولة من انتشار العدوى على نطاق واسع وتم حصر سريانها في بؤر معروفة تمكنت الكوادر الصحية من التعامل معها واحتوائها، إلا أن الفيروس الذي يمثل جذوة المرض وأصله الحيوي ما يزال بين ظهرانينا ومن المرجح أن يبقى لشهور قادمة، ينتظر شرارةً تشعل نار انتشاره وانتقاله بين أفراد المجتمع. الشرارة التي يترقبها الفيروس غالباً ما ستأتيه من مستهتر غير مسؤول في متجر أو حارة أو مؤسسة أو وسيلة مواصلات... ليعيد البلاد إلى ما كانت عليه ويعود بالعباد إلى ما تخلصوا منه بشق الأنفس وشقائها.



 الجهود التي بذلتها مؤسسات الدولة كبيرة للوصول إلى الوضع القائم الآن، وبدايات الانفراج التدريجي وفك الحظر سعد بها العمال والمزارعون والمرضى والنساء اللاتي كابدن الأمرين في منازلهن مع رجال لا ترحم وأطفال لا تدري ولا تعلم. هذه الانفراجة كما يقول أؤلي الأمر مرهون استمرارها واتساع كوّتها ب"مدى التزام الناس" بمعايير السلامة والتباعد الاجتماعي، وإلا لاضطررنا للعودة إلى فرض الحظر".

 توخي المحافظة على السلامة العامة أمر مطلوب بل هو واجب على الجهات المعنية، إلا أن خطاب التهديد والوعيد بفرض تدابير مقيدة أشبه ما تكون بالعقاب الجماعي على ملايين البشر وتعطيل مصالحهم الاقتصادية والتعليمية وتكريس البيئات الضاغطة عليهم نفسياً واجتماعياً، إذا لم يلتزم بعضهم ؛ ليس بالمنهج السديد ولا يليق خطاباً يوجه لعموم المواطنين. كيف يمكن لبضع عشرات من الخارجين على القانون وأوامر الدفاع أن يتسببوا بفرض حظر شامل وكامل للتجول على بلد بأسره؟ أليس من وسائل أخرى ولو كانت أقل سهولةً من أسلوب توجيه خطاب الردع العام للكافة يمكن التفكير بها واتباعها للحد من رعونة البعض دون المساس بمشاعر ومصالح من التزموا وصبروا وصابروا طوال الفترة الماضية وهم الغالبية الساحقة من المواطنين؟



 في المرة الأولى والثانية التي تحدث بها الملك إلى المواطنين، خاطب جانب الخير المتأصل فيهم معولاً على إحساسهم بالمسؤولية قائلاً لهم بعبارة توجز هذا النهج الواعي الرصين في مخاطبة العامة وقت الأزمات: "إنتو قدّها"، ثم خاطبهم بعدها شادّاً من أزرهم ومكافءً لهم لما أبدوه من استجابة والتزام؛ فأعرب عن مدى فخاره واعتزازه بهم،هكذا يساس الناس ويُخاطبون بعموم إحسانهم وليس بخصوص عبث مسيئهم.



 ما تقوله منظمة الصحة العالمية والمسؤولون الصحيون في دول أروبا وأمريكا عن احتمال موجة ثانية والثالثة قد تضرب الدول التي تعافت نسبياً من تفشي الوباء، يجعل من هدف الوصول إلى الحالة صفر في تسجيل الإصابات ولو لمدة أسبوع أو اثنين، أمر غير منتج ما دام الفيروس طليقاً دون لقاح يلجم قوته الضاربة ابتداءً ويمنع الإصابة به ومن ثم انتقاله من شخص إلى آخر، لذلك فإن استراتيجية الاحتواء يجب أن تقوم على حتمية التعايش مع حقيقة أن الفيروس موجود لمدة من الزمن يبدو أنها ليست بالقصيرة. لا يمكن للدولة أن تخصص رجل أمن يراقب كل شارع وحارة وزقاق، لكنها لا تستطيع في الوقت نفسه اللجوء إلى أسلوب "أخذ المحسن بجريرة المسيء" لما فيه من عدم إنصاف وإطالة لأمد معاناة الناس وتضررهم.



 التدابير الاستثنائية الطارئة لها مهابة وجلال يحولان دون خرقها والتمرد عليها لكن إلى حين، بحيث إذا ما طالت تلك التدابير ستغدو أصلاً يستمرئ الناس الخروج عليه وتغييره بشتى الطرق، فنكون أمام واقع يشبه ثورة الجياع التي لا يرهبها صوت النذير ولا يكبح جماحها عصا الغفير ولا جزرة الوزير.