كثير ما تستخدم مفردات إحترام أو حماية او الأداء في تقييم مدى التزام الدول في مجال حقوق الإنسان، وهو التقييم العام الشائع في هذا المضمار، إلا ان هناك مفهوما لم يحظى بالاهتمام الكافي لتقييم أداء الدول وهو الوقاية في مجال حقوق الإنسان.
وغالبا ما يتم التركيز أكثر على مفهوم الحماية، وهو مفهوم يركز على مدى حماية الأفراد من تعرضهم للإنتهاكات من قبل طرف آخر غير حكومي، كالإنتهاكات التي يمارسها صاحب العمل على العامل أو رب الأسرة على أسرته أو العنف الذي يمارسه الذكر على الأنثى أو ممارسات التمييز العنصري التي تمارسها الجماعات على بعضها، ويكون دور الحكومة هنا هو توفير كل ما يلزم تشريعيا وسياسيا وبالممارسة العملية لحماية الضحايا المحتملة من أولئك الذي يمكن أن يمارسوا تلك الإنتهاكات.
ورغم الأهمية الكبيرة لمفهوم حماية حقوق الإنسان إلا أن الحاجة للنظر الى الوقاية الى جانب تلك الحماية ، فما الذي نقصد بتلك الوقاية ولماذا نحتاجها ؟
إن أبرز وجوه الحماية هو الوصول الى العدالة عبر سن تشريعات تجرم بها الإنتهاكات ومحاسبة الجناة من خلال نظام قضائي مستقل تتوفر به ضمانات للمحاكمة العادلة ، إلا أن الوقاية تستلزم النظر الى انتهاج سياسة فض النزاعات بالطرق السلمية والعمل على "وأد" كل سبل إرتكاب الجريمة إجتماعيا وإقتصاديا، والتفكير أكثر بانتهاج سياسة الإصلاح الجنائي فعلا، ولا يعني ذلك بتحويل مسمى السجون الى إصلاحيات فقط بقدر ما تكون الحاجة الى نهج فعلية للإصلاح، وليس بالتركيز على سياسة تغليظ العقوبة كما تحب ان تنتهجه سياسات الحماية، وإنما الوقاية تتطلب توفير بيئة إصلاحية فعلية كتطبيق العقوبات البديلة التي ستحمى المجتمع من النتائج السلبية للسجن وسلب الحرية، والابتعاد ما أمكن عن التوقيف سواء الإداري أو القضائي الا للضرورة القصوى، وأيضا انتهاج وسائل تربوية كاستخدام التدريب المهني والسلوكي والنفسي بما في ذلك وسائل الفن وربط كل ذلك بتقييمات سلوكية قد تفضي الى تخفيض تلك العقوبة لنزلاء مراكز الإصلاح وغيرها، بذا تصبح فوائد الوقاية بإصلاح السجين وليس بالتركيز على حماية المجتمع فقط من خلال المدد التي سيقضيها النزيل في تلك المراكز، وبها نحمي الأسرة من التشتت وتخفيض الكلفة الإقتصادية على الدولة من جراء بقاء أولئك النزلاء في السجن الى جانب الوصمة الاجتماعية التي سيتعرضون لها هم وأسرهم.
الحماية تعتمد على سياسة الردع بينما الوقاية تعتمد على سياسة الإصلاح في مجال إقامة العدل، تركز سياسة الحماية على مساءلة الأشخاص المعتدين على حريات الآخرين بردعهم وزجهم في السجون من باب الردع العام العام والخاص، أما في الوقاية فهي تهتم أكثر في سياسة مجابهة خطاب الكراهية والتمييز العنصري وتثقيف المجتمع بقيم ومعايير ممارسة حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد واحترام التنوع الثقافي وحقوق الأقليات.
في الحماية يتم التركيز أكثر على بناء المدارس والمستشفيات وشق الطرق وغيرها، أي توفيرها كي يستطيع أن يستفيد منها المحتاج إليها، أما في الوقاية فتركز أكثر على الإهتمام بتوفير سياسة الصحة الوقائية والسلامة العامة دونما تمييز، وجعل التعليم أكثر مقبولية من حيث تنوعه وتلبيته لاحتياجات المتعلمين وتنمية مهاراتهم، وانتهاج سياسة لا تقبل التمييز و الاستثناءات في قبول الطلبة بل معاملتهم على أساس المساواة و الكفاءة، وتهتم أكثر باستخدام مناهج عملية ومناسبة ومرنة للمجتمع على اختلاف تنوعاتها.
في الحماية يتم التركيز على حماية العمال من إنتهاكات أصحاب العمل والتركيز على توفير فرص عمل للباحثين عنها ودعم برامج مساعدة الفقراء والمحتاجين، ولكن في الوقاية فتسعى إلى حماية العمال بشكل مؤسسي من خلال نقابات حرة ومستقلة تمثلهم وهي التي تدافع عن مصالحهم بالأساس، وأيضا يتم التركيز على توجيه السياسات الإقتصادية بحيث تستنهض كل الموارد البشرية لصالح جميع الفئات المجتمعية، فينبغي الإهتمام بالزراعة مثلا لأن هناك فئات كثيرة تعتمد عليها والتي تشكل ركنا أساسيا في الأمن المجتمعي وأيضا الإهتمام بالبيئة وغيرها وذلك الى جانب قطاعات الصناعة والتجارة، وعدم فرض ضرائب كبيرة قد ينتج عنها الكثير من الفئات المهمشة، والأجدر كما تبتغي الوقاية هو إستبدال برامج الإعالة لتلك الفئات المهمشة والفقيرة بسياسة تقوم على إعطاء الفرص لكل هذه الفئات ببناء قدراتها وتكوينها وتمكينها للانخراط بسوق العمل وانتهاج سياسة القسط ضمن منظومة حماية مجتمعية لتلك للفئات المجتمعية التي تتعرض للانتهاكات من الغارمين والأيتام ومن تعرضوا للكوارث.
في الحماية يتم التركيز على سلامة الإنتخابات من العبث والتزوير، ولكن الوقاية تهتم بتعزيز ثقة المواطن بدوره في المشاركة السياسية لا من خلال الوعظ وإنما من خلال توفير منظومة إنتخابية متكاملة يشعر بها المواطن أن صوته الإنتخابي معبر عنه بحرية وبمساواة كاملة.
لا نقصد بهذا الطرح أن نقول أن الوقاية بديل عن الحماية، وإنما أن المعادلة تستوجب تكامل هذين النهجين، فهناك جوانب مهمة لكليهما، ولكن أردت ان أسلط الضوء على فوائد الوقاية وسلبيات الحماية من بعض جوانبها في حال كان التركيز على الحماية وحدها أو أكثر من الوقاية.
فالحماية رغم أهميتها إلا انها تكلف الدولة اقتصاديا و تجعل من الدولة حارسا وراعيا ويلقي عليها العبئ دوما، وتخلق احيانا توتراً بين صاحب القرار والمواطن بسبب صعوبة تأمين التوازن بين احترام حقوق الإنسان وضمان دور الدولة الحارس الراعي والذي يتطلب ممارسة القوة، كما ويصبح الفرد المواطن تابعا ومتلقي لسياسات الدولة، ويصبح دور الدولة على المستوى التعليمي دوراً مركزيا يجعل من الفرد متلقياً للتعليم.
فيما أن الوقاية تخفض الكلف على الدولة وتوجهها نحو تعزيز منظومة مجتمعية لحقوق الإنسان يستفيد منها المستحقين من الفئات الأكثر عرضة للانتهاك والمهمشة، وتجعل من الفرد مسؤولاً وشريكاً وهدفاً في تطبيق حقوق الإنسان. كما وتعزز الثقة وتقاسماً للاعباء بقرار مجتمعي وتجعل من الفرد متغيراً مستقلاً اصيلاً ويشعر أن مشاركته مهمة، ويصبح دور الدولة تمكيني لكافة الأفراد، وتفكر دوما في نقل وضعية الأفراد الأكثر عرضة للانتهاك ليصبحوا قادرين على حماية أنفسهم وبالتالي الإبتعاد عن الدور الرعائي الرعوي للدولة وتحويل الدولة الى مؤسسات رسمية وأهلية ومجتمع مدني يعمل كل منهم بتكامل وبدافعية ذاتية، وفي التعليم يصبح دور الدولة توجيهي تثقيفي قيمي يركز على الثقافة المجتمعية.
إن ما أقصده من هذا المقال ليس تعبيراً عن حاجة مرحلية وليست مربوطة بأي ظرف كان، سواء كانت حالة طارئة أم لا، ولكن ربما أن ما مررنا به خلال الجائحة وما سنمر به في الأشهر القادمة يستوجب التأمل والتفكير في ما أقول.
إننا أحوج ما نكون في هذا الوقت بأن نهتم بتحويل سياساتنا في مجال حقوق الإنسان الى النظرة الشمولية التكاملية ما بين الحماية والوقاية، ولست داعياً الى التضحية بأحدهما لأن كليهما مهم ولا يجوز التنازل عن أي منهما، ولكن السؤال هل نحن على استعداد لذلك، لا أقول أن الأمر يحتاج الى عقد اجتماعي بل نحن أحوج الى فلسفة جديدة للتشريع ولرسم السياسات الوطنية تحدد هدفنا المسبق تجاه حقوق الإنسان، وأول ما نحتاج إليه هو رسم خارطة طريق الى ذلك، فهل نبدأ بها الآن ؟