حسابات النخبة الإسرائيلية في الحرب الدائرة على غزة

الرابط المختصر

شكّلت أحداث السابع من أكتوبر صدمة وحالة من الإرباك واضحتين لدى الجانب الإسرائيلي بقواه ونخبه السياسية والأمنية والعسكرية، فعملية طوفان الأقصى التي قادتها كتائب القسام الذراع العسكري لحماس، مثلت مفاجأة استراتيجية أمام حالة من الاسترخاء العسكري كان يمر بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد بدوره إلى القيام برد عنيف على قطاع غزة والقيام بهجوم هستيري أدى إلى تدمير أحياء سكنية بأكملها، مخلّفًا آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين. جاء ذلك الهجوم بالتزامن مع معركة تزداد وتيرتها مندلعة بين النخب الإسرائيلية بسبب  قانون المعقولية الذي تسعى وراءه حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، لتضيف الأحداث الأخيرة في غزة تساؤلات حول آراء النخبة واتجاهاتها في الحرب على غزة، وأبرز النقاشات الجارية اليوم وحساباتها لمرحلة ما بعد الحرب.

في هذ السياق، عقد معهد السياسية والمجتمع ندوة نقاشية، استضافت الخبير في الشؤون الإسرائيلية، د. حسن البراري، كمتحدث رئيسي، وضمت مجموعة من الباحثين والأكاديميين والكتّاب وطلبة العلوم السياسية.

 

الاختراق الذي أعاد إلى أذهان النخب الإسرائيلية حرب 1973

استحضرت عملية السابع من أكتوبر، مقاربة تمثل معنى الصدمة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي وكيفية تناول النخب هذا المفهوم، وهي مقاربة، موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق في الفترة ما بين عام 1967 – 1973، والذي بنى تحليله وحديثه آنذاك على نكسة حزيران عام 1967، ورأى فيها أن سوريا لن تحارب إسرائيل إلا إذا حاربت مصر، ولن تحارب مصر مادام سلاحها الجوي أقل بكثير من سلاح الجو الإسرائيلي. إلا أن تحليل ديان سُرعان ما دحضته حرب 6 أكتوبر 1973، أو يوم الغفران بحسب التعبير الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى تشكيل لجنة (أجرانات) التي أطاحت بديان نفسه وبجولدا مائير وطاقمها الحكومي آنذاك.  

بعد خمسين عامًا، بدا أن السيناريو يتكرر مع حكومة نتنياهو التي لم تكن تعتقد أن  حماس ستُقدم على فعلة بهذا الحجم؛ فحسابات نتنياهو قبل الحرب كانت تركز على أربعة جوانب:

  • أوّلًا: خلق فجوة كبيرة بين السلطة الفلسطينية وحماس لضمان عدم حدوث أي شكل من أشكال التعاون أو التنسيق، موظفًا في ذلك الدعم المالي الذي يقدمه الجانب الإسرائيلي للسلطة وزيادة التنسيق الأمني معها لضبط الأوضاع في الضفة الغربية.

  • ثانيًا: إغراء وإشغال حركة حماس بالتدفق المالي القادم من دول خليجية بوساطة إسرائيلية، وقد كانت هذه الخطوة إحدى أوجه حالة الردع الإسرائيلية للحركة.

  • ثالثًا: إضعاف السلطة الفلسطينية من خلال تسخيف دورها في الضفة والتعامل معها بنوع من الاستعلاء الاسرائيلي.

  • رابعًا: التملّص من حل الدولتين، ففي الآونة الأخيرة لم يعد يُسمع في الصحافة الاسرائيلية أو في البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية على مختلف توجهاتها -حتى اليسارية منها- عن هذا الحل، بالإضافة إلى أن الحل لم ينته لصالح الدولة الواحدة التي يعيش فيها الفلسطينيون والاسرائيليون جنبًا إلى جنب بل لصالح الاستطيان ومحاولات التهجير، بحيث تستولي اسرائيل على كافة الأرضي بأقل عدد ممكن من السكان.

إلا أن عملية طوفان الأقصى استطاعت خلط الأوراق وأعادت إلى الأذهان الصدمة التي لحقت بالجانب الإسرائيلي قبل خمسين عامًا، مع الفارق في أن الجانب الإسرائيلي لا يشك اليوم أن وجود دولته بات مهددًا وغير مضمون، مهما كانت النتيجة، على خلاف ما أحدثته حرب 1973 والذي شعرت فيها النخب الإسرائيلية بتهديد وجودي لدولتها.

 

ما تتفق فيه وتختلف عليه النخبة الإسرائيلية في الحرب على غزة

تُجمع النخبة الإسرائيلية على توصيف ما حدث في عملية طوفان الأقصى بأنها هجوم “إرهابي” غير مبرر يستهدف المدنيين ويكشف عن “النزعة الإرهابية” لدى حماس، وبدأت تشبهها بـ “الهولوكوست”، كما عمدت هذه النخبة إلى توصيف حماس بـ “داعش”، وبالتالي تتفق فيما بينها على ضرورة “استئصال” الحركة.  

وهذا يتناسب مع القيادة الإسرائيلية التي وضعت في اجتماع طارئ لها أهداف أساسية لما ينبغي أن تقوم به خلال المرحلة المقبلة:

  •  استئصال حماس وتدمير قدراتها العسكرية وسيطرتها على قطاع غزة بشكل كامل، بما يحقق لإسرائيل استعادة الردع ويخفف من وطأة ما حدث في طوفان الأقصى داخل المجتمع الإسرائيلي. في المقابل فإن عميلة الردع في حد ذاتها تتآكل؛ فآخر حرب انتصرت فيها اسرائيل بشكل واضح كانت عام 1967 بعد ذلك لم تحقق سوى سلسلة من الهزائم على مستويات مختلفة.

  • خلق وقائع جديدة على الأرض وإجبار العالم على التأقلم معه، وهذا تكتيك “صهيوني” يتجلى في إقامة المستوطنات بحيث يفرض تغيّرًا على الأرض، وما يفكر فيه العقل الجمعي الصهيوني يتجه الآن بضرورة اقتطاع أجزاء من قطاع غزة كمنطقة عازلة، ليصبح القطاع أصغر مساحة من الآن، مما يمكّن الجانب الإسرائيلي من التعامل معه بطريقة أمنية أكثر إحكامًا.

  • ملف التهجير، إذ تجد إسرائيل فرصة تاريخية ذهبية، في حربها على غزة اليوم، لن تتكرر في تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية أيضًا، وهذا يتضح الآن من خلال جعل 1.4 مليون من سكان قطاع غزة ينزحون من شمالي القطاع إلى جنوبه. والذي قد يشي باحتمالية الضغط على مصر للسماح للغزيين بالمرور إلى سيناء، وهو ما تقابله مصر بالرفض القاطع.

على صعيد مختلف، ووفقًا لاستطلاع (Dialogue Center)، فإن 86%  من المجتمع الإسرائيلي يحمّل القيادة السياسية بزعامة نتنياهو مسؤولية ما حدث جراء الاختراق العسكري الذي حققته كتائب القسام، واللافت أن 80% من تلك النسبة هم من أنصار الائتلاف الحكومي الحالي، وهو ما قد يشير بطريقة أو بأخرى إلى حسم مستقبل نتنياهو السياسي، الذي يبدو أنه يخوض غمار حربه الأخيرة ويسعى من ورائها إلى تحقيق انتصار يحفظ فيه  لنفسه رمزية بطولية في عيون الإسرائيليين. 

أمام هذه الآراء للمجتمع الإسرائيلي، يبرز تراشق ما بين الخصوم السياسيين والتيارات السياسية في إسرائيل بين الأحزاب أو داخل الأحزاب أنفسها، أبرزها التراشق داخل حزب الليكود بين جناحيه اليساري واليميني، ولربما هذا التراشق قد يذهب باتجاه القضاء على مستقبل نتينياهو السياسي أو بداية لتفتيت الحزب، خاصة بعد أن هدد 6 وزراء بالاستقالة، إلى جانب الاتهام الذي تواجهه الصهيونية الدينية في إسرائيل من قبل أحزاب وقوى علمانية ترى فيها سببًا بتأزيم الوضع ليصل إلى ما هو عليه اليوم، وهو ما أدى بالقوى العلمانية إلى تقديم دعوات جادة لعزل الصهيونية الدينية واستئصالها من العمل السياسي، خاصة مع التعقيد الكبير الذي تواجهه العملية السياسية في إسرائيل التي بدت وكأنها غير قابلة للحل مع النظام الانتخابي (الدائرة المفتوحة) الذي يسمح بالتمثيل السياسي للمصالح الضيّقة وبالتالي يصعّب من حدوث استقرار سياسي، إلا أنها تعطي من يفوز  بالأكثرية أو يشكل الحكومة إمكانية إقصاء المتدينيين والصهيونية الدينية  بشكل كامل من المشهد السياسي الاسرائيلي وهو ما يرجح أن يحدث عند الانتخابات المقبلة.

 

صراع الحكومة والعسكر  في إسرائيل

على صعيد العلاقة بين الحكومة و المؤسسة العسكرية، تشهد الساحة الإسرائيلية أيضًا خلافات بين قيادات الجيش والحكومة لا تخلو من طابعها الشخصي، إذ تجمع رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف غالنت علاقة مشحونة حيث قدّم الأخير استقالته سابقًا احتجاجًا على التعديلات القضائية، في حين أن رئيس الحكومة ومنذ بدء الحرب يستشير ويعتمد بشكل كبير على رئيس الأركان السابق غابي اشكنازي الذي تجمعه خصومة مع غالنت على صعيدين سياسي وشخصي وقد تعبر هذه القضية عن أزمة الثقة بين القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل، ولربما إحدى تمظهرات هذه الأزمة هي ظاهرة الذباب الالكتروني التابع لمكتب نتنياهو الذي بدأ في استهداف وتشويه صورة الجيش وقياداته بهدف تجميل صورة رئيس الحكومة التي تعرضت لخدش كبير في الرأي العام الإسرائيلي.

يوضح مقال لمائير بن شابات المقرب من جهاز الآمان (الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية)، أن التفكير داخل الجيش أكثر واقعية من رعونة الصهيونية الدينية التي رفعت شعار “دَع الجيش ينتصر منذ اليوم الأول”، بمعنى أنها تريد تحقيق نصر عسكري ثم التفكير في حساب المقصرين، ومن هنا لربما يتضح أن الجميع يحضّر لرواية ما بعد الحرب وهذا سيفرز بالضرورة روايتين؛ الأولى للخارج وبالتحديد للغرب في محاولة لاستدامة دعمهم لإسرائيل خاصة في ظل وجود تخوف يكمن بأن ينقلب المجتمع الدولي عليها، مع تكشّف الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني، وفشل مكتب “هزبرا” التابع لوزارة الخارجية الاسرائيلية في تعزيز الدعاية الإسرائيلية بعد لقاء الأسيرة التي أطلق سراحها القسام، والتي أشادت بالطريقة التي عوملت بها، وهو ما شكل ضربة للدعاية الإسرائيلية. والرواية الأخرى هي للداخل الإسرائيلي، المجتمع الذي أصيب بصدمة كبرى بعد حصيلة قتلى وصلت إلى أكثر من 1400 قتيل عدا عن الإصابات، بالإضافة إلى الضربة المعنوية التي مُني بها الجيش الإسرائيلي.

على الرغم من وجود إجماع على استئصال حماس، إلا أن هناك اختلاف كبير بخصوص الدخول بريًّا على قطاع غزة وخوض الحرب البرية، فبعض الأطراف تدعو إلى دخول الجيش واحتلال غزة بالكامل، بينما أطراف أخرى على يمين نتنياهو تريد أن يدخل الجيش ويحتل نصف غزة ويدمر الأنفاق ويقيم منطقة عازلة. أما الجيش ممثلًا برئيس أركانه يقول بأن الجيش على جهوزية عالية لدخول غزة واحتلالها بالكامل لإحراج نتنياهو المتردد؛ إذ أصبح قرار الحرب البرية مرتبطًا اليوم بأجندات دولية ولم يعد قرارًا إسرائيليًّا فقط، فالمدخلات الأمريكية حاضرة في غرفة العمليات بحيث تعطي الولايات المتحدة الضوء الأخضر للقضاء على حماس لكن في سياق خطة معينة، وهذه الخطة لم تتضح تفاصيلها بعد، لكن معالمها قد تحتوي على إطلاق عملية سلام مع الحديث عن إدخال لأطراف عربية تباعًا لتسوية الصراع في غزة، مع التأكيد على إقامة منطقة أمنية بعد التخلص من حماس، إضافة إلى أن هناك من هو داخل الجيش يرى أن تأخير الدخول البري ليس من صالح إسرائيل، فقد بدأ الحديث جديًّا عن فتح ممرات آمنة لقطاع غزة ومطالبات بوقف إطلاق النار مع بدء إدانة إسرائيل من قبل المجتمع الدولي وهذا لم يكن موجودًا في الأسبوع الأول للحرب.

خلاصة:

النصر بالنسبة لإسرائيل هو استئصال حركة حماس والقضاء عليها نهائيًّا، وفي حال نجحت حماس بالبقاء، فهذا سيكون له تداعياته الكبيرة على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وقد يغير العديد من المعادلات؛ فالحرب محليّة الآن لكنها بطعم إقليمي، فهناك مخاوف حقيقية من أن تنتفض الضفة الغربية وأن تدخل أطراف إقليمية إلى الحرب.

تعيش الساحة الإسرائيلية نوعًا من المزايدات، فنتنياهو يخوض حرب البقاء فهو يدرك أنه الخاسر الأول ومن بعده  الصهيونية الدينية التي قد لا يكون لها مكان في الائتلاف الحكومي القادم، وهذا قد يعطي ذخيرة للأمريكيين لعزل هذا التيار تمامًا والدفع لتشكيل حكومة من يمين العمل ويسار الليكود بالإضافة إلى حزب شاس.

إخراج حماس من المشهد أمر متفق عليه دوليًّا بعدما تم تصويرها على أنها نموذج “داعش “في غزة، والحديث يتمحور الآن، في بعض الأروقة، عن إيجاد وصاية دولية مؤقتة على غزة، وهو ما يعني أن حماس قد لا تكون موجودة بأية مفاوضات قادمة، حيث لا يوجد في العقليتين الامريكية والاسرائيلية أي نية للتفاوض مع الحركة بعد شيطنتها أمام العالم َوالرأي العام والتعامل معها على أساس أنها منظمة إرهابية؛ لذا فالتفكير لما بعد الوصاية حاليًّا هو إعادة الإعمار مع تأهيل السلطة الفلسطينية لتحكم قطاع غزة.