تساؤلات حول الإعلام والتطبيع
عاد جدل التطبيع إلى الساحة الإعلامية والثقافية الأردنية مؤخرا إثر إصدار "لجنة مقاومة التطبيع" واحدة من فتاواها السياسية التي تعتبر أن قيام صحافيين أردنيين بزيارة القدس لإعداد تقارير توثيقية عن الأوضاع في المدينة المقدسة تحت الاحتلال يعتبر عملا تطبيعيا لأن الزيارة تمت من خلال الحصول على تأشيرة سفر من السفارة الإسرائيلية في عمان. نقابة الصحافيين أكدت بدورها على عدم وجود "شبهة تطبيعية" لأن الصحافيين الأردنيين لن يلتقوا بشخصيات إسرائيلية أثناء الزيارة وهدف الزيارة هو نقل الواقع من داخل مدينة القدس بدلا من الاكتفاء بالتقارير الإعلامية الخارجية.
رد نقابة الصحافيين لن يقنع ويرضي لجنة مقاومة التطبيع والتي تعتبر أن اي تعامل مع طرف إسرائيلي هو تطبيع ، ومن الصعب تصور وجود تفهم لدى هذه اللجنة والتي تعتبر أن مشاركة وفد من عرب 1948 في مهرجانات فنية وثقافية في الأردن تعتبر تطبيعا وكأن المطلوب من عرب 1948 الذين يولدون تحت الاحتلال أن يقذفوا بأنفسهم خارج فلسطين التاريخية كي لا يحملوا جواز سفر إسرائيليا وهذا ما سيرضي سدنة الوطنية والنضال في لجنة مقاومة التطبيع.
لو فرضنا أن الوفد الصحافي الأردني المسافر إلى القدس قرر أن يضيف بندا جديدا إلى زيارته من خلال اللقاء مع جمعية بيت شيلم الإسرائيلية التي تقوم بأهم دور في توثيق ومقاومة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس ، أو قرر مقابلة شخصيات من جمعية السلام الآن التي ترفض كافة ممارسات الاحتلال وتقوم بجهد إعلامي وسياسي مهم في دعم الحد الأدنى الممكن من حرية تنقل الفلسطينيين فإن أبواب الهجوم سوف تفتح على الوفد وتتهمه بالخيانة العظمى.
لا ندعو في هذا المقال لأي نوع من التطبيع. كاتب المقال لم يلتق أو يتحدث مع اي شخص إسرائيلي خلال كافة السنوات الماضية سواء في العمل الإعلامي أو في مجال البيئة بالرغم من توفر فرص سهلة لهذه اللقاءات في مؤتمرات ذات طبيعة دولية وذلك بسبب موقف ذاتي يقضي بعدم تقديم اي نوع من التطبيع قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الشرعية. ولكن يبدو أحيانا أن القطاع الإعلامي بالذات يحتاج إلى فتح قنوات منظمة من التنسيق مع جهات وإعلاميين إسرائيليين يحملون مواقف إنسانية مؤيدة للحق الفلسطيني حتى لو كانوا أقلية ضئيلة.
أفضل مكان للحصول على المعلومات الموثقة حول الاستيطان وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني هي منظمتا بيت شيلم والسلام الآن ، والمواقع الإلكترونية لهذه المنظمات تعتبر كنزا ثريا من التوثيق يتجاوز حتى ما تقوم به مؤسسات عربية وفلسطينية. كتاب إسرائيليون مثل أميرا هاس وجدعون ليفي وعكيفا إلدار كتبوا في نقد السياسات الإسرائيلية ودعم الحقوق الفلسطينية أكثر مما فعلت نسبة كبيرة من الإعلاميين العرب. الأكاديمي الإسرائيلي نيف غوردون من جامعة بن جوريون كتب مؤخرا في صحيفة لوس أنجلوس تايمز داعيا إلى مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وثقافيا وسياسيا لكونها "دولة تمييز عنصري". وفي العدوان الإسرائيلي على غزة كانت أفضل مقالة في الصحافة العالمية هي للبروفيسور أفي شليم الخبير في العلاقات الدولية والمحاضر في جامعة أوكسفورد وصاحب الكتاب الشهير "اسد الأردن" حول حياة الملك الحسين بن طلال حيث كانت المقالة المنشورة في الغارديان البريطانية شهادة إدعاء أخلاقية وسياسية عالية الجودة ضد إسرائيل وحصارها وتجويعها وضربها لغزة.
وإذا ما انتقلنا من الإسرائيليين إلى اليهود وتابعنا كتابات نعوم تشومسكي ، وغيره من المثقفين اليهود التقدميين في العالم نجد بأن هناك وعيا هائلا بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وعداء كبيرا لسياسات الحكومة الإسرائيلية. والواقع أن أحد أشكال الضعف في سياسة التعبئة العربية الشعبية كانت دائما في تجاهلها النسيق مع القوى والأشخاص اليهود المؤيدين للحق الفلسطيني ، إذ ان هؤلاء من أكثر الناس إقناعا للعالم خاصة أنهم يتحدثون من منطلق كونهم يهودا ولا يمكن اتهامهم باللاسامية ، وتحويل الصراع من قضية سياسية ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى قضية دينية إسلامية - يهودية لا يمكن أن يساهم إلا في زيادة تعقيد المسألة وعدم الوصول إلى حل سياسي نهائي لها.
بالطبع فإن قيام اي إعلامي أردني وعربي بكسر حاجز التطبيع مع إسرائيل وحتى من خلال اللقاء مع المؤسسات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والمتفقة على ضرورة الوصول إلى حل الدولتين سيكون بمثابة عملية إنتحارية في مواجهة ثقافة شعبية ترفض تماما أي اتصال عربي - إسرائيلي وتصنف الإعلاميين من خلال مقياس واحد وهو الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي ، وهذا ما يعطي لجنة مقاومة التطبيع الزخم الشعبي لإصدار صكوك الغفران والاتهام وتوزيع صفات الوطنية على عباد الله ، ولكن هذه حالة شاذة يجب ألا يسمح لها بالاستمرار.











































