تداعيات بلا ترتيب ولا تراتب
لست من مغرمي صالونات الواتساب السياسية، وهي صالونات افتراضية منتشرة في الأردن، كما في بلدان أخرى تعاني من نقص حاد في الحقائق كمعلومات متاحة فيكثر فيها الضجيج الصوتي الذي يتحول إلى إشاعات تتحول بدورها إلى بديل فوري عن الحقائق "غير المتاحة"، هذا الضجيج الصوتي في الأردن كما في البلدان الأخرى مثل الأردن، تحب النخب الحاكمة أن تسميه "حرية تعبير" أو "تعددية آراء" مع انه مبني على تضليل وزيف وإشاعات والتعددية فيه ليست اكثر من نسخ مزورة متعددة لاستهبال مصاغ على شكل خبر، ترميه جهة داخلية او خارجية او بأحسن الأحوال يرميه على جموع المتلقفين المتعطشين لأي فريسة من الحقائق شخص ما ضجر وجاهل.
الأصل أن تتوفر المعلومة، والمعلومة حقيقة لا تزويق فيها ولا تضليل، هي كما هي معلومة بكل عناصر تكوينها كمعلومة، بدون الرشوة البلاغية ومحاولات التطويع اللغوي، او الإضافات "الغريبة" عن بنية المعلومة نفسها.
والمعلومة تحتاج منظومة إعلامية، لا مؤسسات تدير الإعلام وتراقبه، المنظومة بدورها تحتاج وعيا دستوريا بالدولة والمؤسسات والقوانين، لا انصياعا أمنيا يخلق بهاليل ودكاكين وبسطات صحفية.
وفي قصة ما تم تسميته "تزويقا" بقضية الفتنة، فالقصة كلها خروج فاضح عن القانون والدستور.
اتفقت مع الملك عبدالله الثاني ام لم تتفق، فهو الملك دستوريا، ودستوريا أيضا، فهو الذي يملك الحق "الدستوري" بتعيين ولي عهده، وهو حق دستوري له وحده، تماما مثل حق والده الملك الراحل حين قام بسحب ولاية العهد من شقيقه ومنحها لأكبر أبنائه، ما لم يكن حقا دستوريا لوالده الملك الراحل هي وصيته بأن يكون الأمير حمزة وليا لولي العهد، وهذه وصية أب لإبنه، لا مكان لها في الترتيبات الدستورية ولا محل لها للنقاش العام أصلا.
أي خروج عن القواعد الدستورية والقانون هو جريمة مكتملة الأركان، لا تحتاج أبدا إلى أي إخراج مسرحي ساذج وغبي عبر تسريبات أكثر غباءا استحضارا بتسول غير مفهوم لإدانة شعبية!
هل سيتم اتهامي بالموالاة و"التسحيج" للملك عبدالله الثاني؟ هذا وارد جدا في بلاد فقدت بوصلة الدولة المؤسساتية، وفقدت كذلك تعريف المفاهيم والتخصصات كما هي ، فتعتقد بأن الصحفي يجب ان يكون سياسيا، والصحفي هنا - في ذات سياق الفوضى الوطنية- يشمل من امتهن المهنة كما يشمل أي عابر للمهنة قادم إليها قفزا من فوق او استنباتا طحلبيا متسلقا من تحت.
وهي البلاد التي يتم فيها التخوين "من أي طرف" بسهولة إلقاء التحية على أي عابر طريق، فيصبح التمسك بالقانون والدستور "فذلكة" خارجة عن واقع الحياة، وهذا صحيح، فكل ما في الأردن من وقائع هو واقع خارج الدستور القانون، اما الوعي الجمعي فهو ذاته "واقع" في منحدرات التجهيل والتحشيش التراثي والديني الممزوج بحكايات القبيلة والعشيرة والخيول والفرسان والسيوف.
( السيوف التي صار حملها مضحكا، والتمادي برمزيتها مسيئا للملك نفسه الذي يريده كثير من الجمهور المتفرج مسرحيا "لا المشارك سياسيا" شيخ مشايخ قبيلة لا رأس دولة يحميه الدستور ويحمي هو بدوره الدستور).
لكن، لنوضح أنني أيضا أحمل الملك عبدالله بصفتيه الشخصية والوظيفية كل ما آلت إليه الأحوال في المملكة الأردنية الهاشمية، فهو المسؤول سياسيا رغم ان الدستور حاول ان يحميه ويحمي العرش بصيانته كملك من كل تبعة ومسؤولية. لم يقل النص أنه غير مسؤول، بل كان نصا حكيما وحصيفا في استخدامات اللغة بدقة فقال "أنه - الملك- مصون من كل تبعة ومسؤولية"، مما يعطي الإيحاء بأن التبعة والمسؤولية لهما إيحاء سلبي كأعباء غير محمودة فقرر الدستور ان "يصون" الملك منهما.
الملك، فعليا خلال عشرين عاما من عهده، لم يصن نفسه من التبعة والمسؤولية، فأرهق نفسه وأرهق الدولة، وبغياب تدريجي للمؤسسية في كل الدولة، كان الملك "وكل ظلاله المرافقة له" تتصدى للمسؤولية وتحمل تبعات كل التفاصيل حتى وصلنا إلى "أكسجين" في مستشفى انقطع فجأة " لم نسمع عن نتائج تحقيق بذلك حتى اليوم"! ومكارم ملكية لعلاج من عجزت مؤسسات الدولة الصحية عن علاجهم، وهبات ملكية لإسكان من لم تستطع الدولة أن توفر لهم السكن، والعفو الملكي عن مديونين فاضت بهم الحاجة والقهر في حبسهم فشمل العفو أيضا زعران الحارات والمجرمين المدانين.
الملك، الذي حصنه الدستور من المسؤولية ما دامت المؤسسات تعمل بكفاءة، وامام تعطل المؤسسات، تصدى هو ليحل محلها جميعا، وهذا خلق صراع مراكز قوى، كلها موالية للملك، لكن ولاؤها شخصي وتنافسي فيه شراسة الإثبات للملك أن كل طرف هو الأكثر ولاءا، وعليه فكل إدارة "مستقلة بقرارها الشخصي" ترى في نفسها الأحقية بمنصبها وصلاحيات أكثر تعطيها امتيازات اكثر.
هؤلاء - رجال الملك- من رؤساء وزارات ووزراء ومدراء أجهزة أمنية "متعددة ومنقسمة جدا" وطواقم ديوان الملك ومكتبه صاروا هم عبئا على الملك اليوم، وقد خلق الملك أوضاعهم وامتيازاتهم وكذلك صراعاتهم.
في مرحلة ما، تصارع مدير مخابرات الملك، مع مدير مكتب الملك، فعزلهم الملك، وانتهى الإثنان بالحبس والإدانة، مدير المخابرات أدين بالفساد المالي (!) ومدير المكتب صاحب الحظوة الأكبر انتهى اليوم مدانا بخيانة الملك والدولة والتواطؤ في حركة لم تقل الدولة انها انقلاب، وتركتها في حدود المؤامرة على الملك والعرش، وبدون اتهام شقيق الملك الأمير حمزة رسميا، تخرج الاعترافات ومحاضر التحقيق بشكل مسرحي بائس لتحاكم الأمير نفسه.
المحاضر تتسرب على شكل صور موبايل، إلى المواقع الالكترونية رغم تشديد النائب العام بعدم نشر أي شيء عن قضية الفتنة، وهو ما يعيدنا إلى أول السطر:
فراغ سياسي تملأه مراكز القوى، فراغ مؤسساتي يملأه الفساد المقونن، وفراغ معلوماتي تملأه الإشاعات الممنهجة والغبية معا. المتلقي هو ذلك الذي فقد المواطنة كمفهوم محترم، وصار بالضرورة يحمل التابعية مطالبا بالواجبات عليه محروما من حقوقه، ومتلقيا لكل البؤس اليومي المحيط به، وشريكا في إنتاج التضليل والتسويق له عبر أدوات التجهيل والتعمية.
المشاهد فانتازية وعلى طرافة بعضها إلا انها جميعا قلقة ومقلقة..
لذا..وعليه، وانطلاقا من كل ماسبق ذكره وما غفلت عن ذكره:
أضع رهاني " بحذر لا أخفيه" على لجنة التطوير والتحديث، اللجنة التي لم تحمل كلمة الإصلاح في تسميتها، لكنها آخر ما تبقى من أمل في إصلاح كل هذا الخراب، وبضمانة الملك وكفالته.. ضمانة قد تكون حمولة ثقيلة من الإرهاق على كتف الملك لو أخفقت اللجنة لا سمح الله، وقد تكون مخرج الملك لطموحاته التي أؤمن انه صادق بها وقد ترجمها كأوراق نقاشية باسمه وتوقيعه، ومدخلا لعودة الدولة بعد اختطافها والدستور بعد تغييبه وتشويهه.
اللجنة التي حملت أسماء ذوات أحترمهم وأتعلم منهم، كما حملت أسماء شخصيات أكروباتية تمارس الفهلوة السياسية لغايات التسلق، لكن الحقيقة انها لجنة تمثل غالبية المشهد الأردني بالصادقين الجادين فيه، والمهرجين لاعبي السيرك السياسي الشعبويين فيه أيضا.
رهان على حالة أردنية ليس لي فيها مصلحة ولا ارتباط عضوي، غير ذاكرة وجدانية حاولت منذ هاجرت قبل عشر سنوات "شلعها" فلم أنجح.