منذ تأسيس الدولة الأردنية، ظلّ القضاء حجر الزاوية في حفظ النظام العام وصون الحقوق والحريات. واليوم، ومع تسارع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، يواصل القضاء الأردني تحديث أدواته ومناهجه ليواكب مفهوم العدالة الحديثة التي لا تُقاس فقط بصرامة القانون، بل بقدرتها على تحقيق التوازن بين الردع والإصلاح.
جاءت توجيهات الملك عبدالله الثاني الأخيرة لتوسيع نطاق العقوبات البديلة تمثل نقطة ارتكاز في هذا المسار، إذ أعادت النقاش حول فلسفة العقوبة وجدواها في تحقيق العدالة. فالملك لم يكتفِ بالتأكيد على صرامة القانون، بل دعا إلى تطويره بما ينسجم مع واقع الناس، ومع فهم أعمق لمعنى العدالة في دولة حديثة تسعى للإصلاح لا للانتقام.
لم يعد تطبيق العقوبات البديلة في الأردن فكرة نظرية. فمنذ تعديل قانون العقوبات عام 2017، سمحت التشريعات باستبدال بعض أحكام الحبس بعقوبات مجتمعية، مثل الخدمة العامة أو الخضوع لبرامج تأهيلية.
ورغم أن التطبيق ما زال محدودًا، إلا أن نتائجه الأولية مشجعة؛ فقد أسهمت هذه التجربة في أعادت دمج مئات الأشخاص في المجتمع بطريقة تحفظ كرامتهم وتفيد الصالح العام.
لكنّ التحدي الأكبر اليوم ليس في النصوص القانونية، بل في توسيع نطاق التطبيق، ووضع معايير دقيقة تحدد من يستحق الاستفادة من هذه البدائل دون الإخلال بالردع العام. وهنا تبرز أهمية الإرادة السياسية التي عبّر عنها الملك بوضوح: العدالة لا تكون ناجزة إلا إذا كانت منصفة وإنسانية في آنٍ واحد.
ثمة جانب إنساني لا يمكن تجاهله في النقاش الدائر حول العدالة الجزائية، وهو ملف المحكومين الذين أُسقط عنهم الحق الشخصي وتم الصلح عشائريًا.
كثير من هؤلاء لا يشكلون خطرًا على المجتمع، لكنهم ما زالوا يقضون عقوباتهم في إطار “الحق العام”. هذه المفارقة تُضعف من فكرة العدالة التصالحية التي تشجّعها الأمم المتحدة، وتحدّ من الدور البنّاء للمجتمع في احتواء الخلافات وإصلاح الأفراد.
إنّ المجتمع الأردني، الذي طالما اعتمد على منظومة القيم العشائرية في حفظ السلم الأهلي، قدّم نموذجًا متقدّمًا في إدارة النزاعات بعيدًا عن الثأر والانتقام. وتقدير هذا الجهد المجتمعي من خلال قرارات قضائية مرنة أو تعليمات تنفيذية موسّعة هو تكريم لثقافة التسامح الأردنية التي حافظت على استقرار البلاد لعقود.
من المنطقي أن يعاد النظر في مثل هذه الحالات ضمن منظومة العقوبات البديلة، بحيث يُكافأ الصلح والتسامح بقرارات قضائية تراعي المصلحة العامة دون أن تتجاهل إنسانية المتهم أو معاناة أسرته.
الحق العام هو حق للدولة والمجتمع، و لا أحد يطالب بالتساهل مع الجرائم الخطيرة التي تمس أمن المجتمع واستقراره، لكن هناك قضايا تستحق إعادة النظر بروح العدالة والرحمة، لاسيما تلك التي انتهت بتسامح الضحية وقبول المجتمع من خلال الصلح. العفو يُعد أداة مهمة لتعزيز التسامح وتوطيد المصالحة المجتمعية.
وفي العود لتطوير القضاء في الأردن، يتطلب هذا مراجعة شاملة لآليات تنفيذ العدالة، وتطوير أدوات المحاكم وأجهزة إنفاذ القانون لتكون أكثر سرعة ومرونة وعدالة. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من فهم بسيط لكنه جوهري: القانون وسيلة لخدمة الإنسان، لا العكس.
إذا تمكّن الأردن من تعميم تجربة العقوبات البديلة وربطها بمبادئ العدالة التصالحية، فسيضع نموذجًا عربيًا متقدمًا في الإصلاح القضائي.
ليس المطلوب إلغاء العقوبة، بل تغيير فلسفتها من الانتقام إلى إعادة التأهيل، ومن الحبس إلى فرصة ثانية.
هكذا فقط يمكن للقضاء الأردني أن يجسّد ما دعا إليه الملك: عدالة تُصلح الإنسان قبل أن تُعاقبه، وتعيد الثقة وترسخ العدالة في المجتمع.












































