بشار، حلم مَرَّ بلجوء واغترابين.. هل يكتمل؟ (بودكاست)

الرابط المختصر

radio albalad · بشار، حلم مَرَّ بلجوء واغترابين.. هل يكتمل؟

 

"لن أعيش في جلباب أبي"     

يقف على "سيخ"  الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، يتدرب على الإلقاء التلفزيوني، يقص الشاورما باحترافية معلم سوري، يحلم بغد يصبح فيه مقدمًا تلفزيونيًا، هكذا يحمل حلمه في حقيبته.. التي امتلأت بمواد الجامعة، وملابس العمل.. ورائحة الشاورما وبهارات الدجاج، ليست سهلة حياته أبدًا، يتعرض لإصابة عمل أفقدته جزءًا من إصبعه، قبل أن يتم عامه العاشر، كان يعمل وقتها في مطعم يملكه والده للحمص والفول في مدينته التي أحب في الصنمين، يصر بشار على تعليمه، يتفوق في مراحل الدراسة، ويضع نصب عينيه حلمًا يقول عنه " ظل معي، مثل ضربة اصبعي" عن حلمه يتحدث.. ويتابع لن أعيش حياة بلا إنتاج : ما رح أظل معلم شاورما طول حياتي. 

 

في ورشة ذات عنوان طويل، نلتقيه، نراه فضوليًّا كثير السؤال، في سعي محموم لانتزاع المعلومات من مدربه المتمكن، يتعجل في الإجابة، في تدخلاته التي تعطي للتدريب طابعًا آخر، وعندما عرف الجميع بأفسهم عرف بنفسه قائلًا: بشار العتمة معلم شاورما، وطالب بكالوريوس إعلام في السنة الثالثة، في الجامعة العربية المفتوحة. 

 

"ملعون أي لقمة مغمسة بالذل.. ملعون الجبان" 

لم تك  الحياة يومًا رحيمة عليه، فبعد أن حصل على مقعده في جامعة دمشق، في اللغة الفرنسية وآدابها، يمر بظروف عائلية يضطر فيها مغادرة مقاعد الجامعة، ليبدأ فصلًا جديدًا. الوجهة بيروت والهدف إعالة أسرته وتعليم أخوته، ليقضي هناك أكثر من عام، يحدثنا عن بحر بيروت، كيف كان يشكو للبحر ما يعيشه من صعوبات تحول بينه وبين تحقيق الحلم، يصف رائحة البحر ويربطها بتلك الهموم التي قاساها هناك.. أيقف عند هذا؟ يعود لدمشق، يتقدم لامتحاناته الفصلية، ويتفوق في سنته الدراسية الأولى، ليعود مغتربًا مرة أخرى والوجهة هذه المرّة مدينة اربد، ليعمل في أحد مطاعمها، يحمل نفس الهموم، يتمسك بحلمه بيديه المحترقتين وقلبه الذي شغف حبًّا بالعلم والتعلم. 

 

يحدثنا عن سفره الأول بلهجة حورانية دافئة: أني هسع مش خايف، جربت الغربة قبل. فصل اربد الأول، كان أكثر رأفة به، كيف لا وهي الامتداد الحضاري والجغرافي لسهول حوران التي يعشقها.. يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب.. يعرف اتجاه الريح من تمايل سنابل القمح فيها.. ويهتف باسمها في ميادين الثورة عندما بزغت شمسها ذات ربيع.. 

 

تدق ساعة الثورة، يحمل روحه على كفه، ليناضل باللحم الحي، يعود إلى الصنمين وينخرط في صفوف الناشطين الذين وثقوا ليوميات الثورة، مسؤوليات تتبعها مسؤوليات، فها هو الوطن يناديه، في لحظة تحمل فيها مسؤوليات عائلته ومشاق دراسته الجامعية، وقلبه على قلب أمه التي كانت تخاف أن يحصل له مكروه ما، تتسارع أحداث الثورة، ترتفع وتيرة المواجهات، يحدثنا عن قصة حدثت له، وهو في طريقه إلى دمشق، يوقفه حاجز "طيار"، يسأله عن هويته يطلب منه النزول من "الميكرو".. ينظر إليه العسكري ويقارن اسمه بأسماء المطلوبين، يخاف وتتسع حدقاته، يتساءل هل هي النهاية الآن، يبقى على الحاجز لأكثر من ساعة، كانت أطول ساعة في حياته.. ومن ثم يطلب منه الضابط الانصراف.. ليعود إلى الصنمين ومنها إلى اربد، مرة أخرى.. 

 

هل تكون اربد المستقر؟ هل يعود من جديد لشمال حوران التي عاش فيها ومن أجلها؟ ماذا يفعل في اربد مع آلاف اللاجئين الذين عبروا الحدود؟ 



 

علمتني الحياة أن أبدأ من جديد كلما أوشكت على النهاية.. 

اربد مرة أخرى، وقع الحياة مختلف هذه المرّة، تأثر الأردنيون بما حل بإخوانهم شمالًا، ففتحوا بيوتهم، مصالحهم، عاشوا تفاصيل الثورة، يومياتها، شاركوا إخوانهم كل شيء، الخبز والماء والأحاديث الحوارنية، الأفراح والأحزان وموسيقى "المجوز" الشمالية، وهذا ما أكده بشار مرة أخرى باحتضان المدينة له، يعود لاربد للمرة الثانية؛ تتردد دعوات أمه في أذنه، يفكر بإخوته وتعليمهم، ولا ينسى حلمه بالتعليم، يعود للعمل في المطاعم، تتوسع خبرته في هذا المجال، يعجب صاحب العمل منه، يوفر له مكانًا للنوم، أهله في الصنمين يعيشون أوضاعًا سيئة، ومستقبل مجهول، "لم أتوقف عن التفكير بهم للحظة واحدة" هكذا قال وفي عينه التماعة ما، تتوالى موجات اللاجئين منذ بداية العام 2013، يطلب منه صاحب العمل أن يجد مكانا آخر للنوم، فهو يريد أن يستقبل أحد العائلات التي لجأت إلى عمان وتولى أمرها بحكم القرابة.." ما قصّر معي صاحب المصلحة". 

 

أنه العام 2013، ملامح المأساة السورية بدأت بالتشكل، ولا حل قريب لها، ينزل إلى العاصمة عمان، تدهشه المكعبات الإسمنتية والتنوع، أزمة السيارات الخانقة، واختلاط اللهجات، يهيم بشوارع العاصمة باحثًا عن عمل ومأوى، ليجد ضالته في مطعم، ينام في الطابق العلوي فيه، ليبدأ من جديد فصلًا آخر، استقبال والدته وأخوته، يدخلون الأراضي الأردنية سيرًا على الأقدام، يستقبلهم الجيش العربي ويضعهم في الزعتري، هكذا روى.. يخرجهم من الزعتري ويستأجر لهم بيتًا بعد أن أقام في عمان أشهر معدودة.. لقد نجح أخيرًا في لم شمل أسرته.. وصاروا يواجهون صنوف الدهر مجتمعين لا فرادى. 

 

يعمل هو وإخوته، يعلمهم أن رسالة التعليم مقدسة، فيتابع معهم، رسالتهم.. يناديه القلب، هل نسيت شيئًا يا بشار؟ أنه الحب يطرق بابه الآن، وكعادة الحياة معه، يجب أن يحفر في الصخور ليحصل على ما يريد، يقرر الارتباط بفتاة كانت تقيم في القنيطرة، تقوم أمه بأصعب مغامرة ممكن أن تحدث، تعود إلى حوران لتزف إليه عروسه، فتمكث شهرين بين الركبان والزعتري، لتأتي زوجته أخيرًا.. ويلتقي بمن أحب. 

 

في العام 2017 يقرر يدرك بشار أن الوقت والعمل والمسؤوليات قد تسلبه الحلم فيقرر برفقة زوجته، أن يتابعا مسيرة التعليم سوّيًا، في عام 2017 يلتحق بـ منحته الأولى في إدارة الأعمال ويتفوق بها،  ليلحقها بالدبلوم العالي لإدارة الفنادق من كلية القدس، وأخيرًا في ظل مشاغله، وحروق يده.. هل يستطيع هذا البشار أن يمسك القلم مرة أخرى ويكمل الطريق.. رغم الفقر والحروق.. يحصل على منحة ثالثة منحة بكالوريوس الصحافة والإعلام من الجامعة العربية، وهو وزوجته أيضًا، في العام 2019، نفس العام الذي رزق فيه بطفلين، ويتابع بكل حب مسيرته بإيقاع متسارع الوتيرة لكنه جميل.. ورتيب كصوته، والتماعة عيونه عندما يحدثنا عما يحب كحديثه الطويل عن أبنائه. 

 

ونحن نعد هذه القصة، نتحلق حوله لنستمع لفصول هذه الحكاية، يتفاجأ برسالة نصية مفادها أن منحته قد توقفت برفقة أكثر من 150 طالبًا، هل يمكن أن يوقف هذا المسيرة يا بشار؟ 

  • أني تعودت خلص، رح أكمل تعليمي. 

بهذه البساطة يا بشار وأنت تقارع أعتى الظروف شهادتين، والثالثة على الطريق، عائلتين ومشاق رعايتهم، اغترابين وربما أكثر، ملهمة تفاصيل رحلتك، ليست خطابًا تحفيزيًا من تلك التي يرددها رواد التنمية البشرية.. بل حقيقة رأيناها في اربد، حاورناها وتحدثنا إليها.. وتعلمنا منها.. 

 

                                                                                                                                

هذا العمل من إعداد: 

مروة نمر

اسماعيل أبو شخيدم

محمد حمد

بشار العتمة

 

س