الملك ليس بحاجة لفقه الطاعة
ردّة الفعل الغاضبة المستنكرة التي أثارتها خطبة الجمعة يوم أمس عن وجوب طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه وما تضمنته من استشهادات البعض بأدلة شرعية، تشير إلى الهوة المعرفية السحيقة -التي تحدثنا عنها مراراً وتكراراً- بين حقيقة مضامين عدد كبير من النقول بنسختها الأصلية وما يحاول بعض الدعاة الـ "Cool" تسويقه للناس من إصدار “Light” من الأحكام يعتمد على عملية غربلة شاقة تنسجم مع التطور القيمي وتتخطى الفجوة الزمنية والمكانية العميقة بين بيئة وسياق تلك النقول والمنقول إليهم الذين يعيشون في عالم تسعى أممه للتحرر والحرية وإحترام الحقوق ... ذلك أن ثمة نصوص تشتمل على أوامر وزواجر ترسخ حكم الفرد وتكرس صوراً وممارسات تمييزية على أساس العرق والدين والجنس.
ما إستشعره الناس من فجاجة في خطبة الجمعة الماضية وتعارضها مع قيم الديمقراطية والتعددية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وإختيار حكامها وحكوماتها، ليست من بنات أفكار الخطباء الذين وقفوا يتلونها بل هي من "صحيح الدين" كما يراه ويفسره "أهل العلم"، ولم يجد المستنكرون للخطبة ما يدحضون به ما تضمنته من حقائق صادمة بالنسبة لهم؛ سوى مقطع من أحد دروس الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي يقول فيه: "أن طاعة ولي الأمر من باطن طاعته لله ورسوله وليست على إطلاقها"، ويؤسفني أن أحيل هؤلاء إلى الرابط الآتي https://www.youtube.com/watch?v=G_ikAfPKDAg الذي يتضمن مقطعاً يعلن فيه الشيخ نفسه موقفه من الحاكم الظالم، حيث وقف بين يدي الرئيس الراحل محمد حسني مبارك يؤكد بيعته ويحذر من الخروج عليه مبيّناً أن: "من يؤتيه الله المُلْك فلا مكايدة لنزعه، والحكم يؤتى ولا يُطلَب"، ليختم كلامه بعبارة ملؤها الصَغار في حق الشعوب والإكبار الذي لا يخلو من رياء للحاكم حيث قال: "إن كنت قدرنا فاليوفقك الله، وإن كنا قدرك فليعينك الله علينا". وقد كان للشعراوي صولات وجولات في نظم قصائد المديح في الملك فؤاد ثم الملك فاروق على "علّاتهما الشرعية"، ففي تطبيلة أو تسحيجة مزدوجة عابرة للقارات، أنشد راثياً فؤاد مادحاً فاروق: "أيا فاروق إن بك العزاء، لمصر وفي جلالتك الرجاء، فأنت لمصر سلوتها إذا ما، تمطى ليلها بثق الضياء، فصبرا يا مليك النيل صبرا، فما حي يهادينه الفناء... بكم للدين يا مولاي فأل، فحقق ما ترجيه السماء".
لا دعاة الموضة ولا المشايخ المسيّسين يمكن أن يكونوا المرجعية الموضوعية لبيان فحوى ومغزى الأحكام الشرعية بحياد وموضوعية لأن كلا الفريقين سوف يأوّل النصوص وفق هواه ومبتغى من يوالي ووالاه. وقد سبق أن أشرنا في غير موضع ومناسبة إلى أن عدداً كبيراً من رجال أعمال الدين يمرون بأزمة حقيقية، فهم لا يقوون على البوح وشرح حقيقة النقول التي تنكر وتستنكر الديمقراطية وما تفرضه من تعددية سياسية ووجوب المساواة بين المرأة والرجل، هذا فضلاً عن فئات واسعة من الحقوق والحريات الأساسية مثل حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير، وفي الوقت نفسه فإنهم يشعرون بحرج وعدم تصالح مع النفس بقولهم غير الحق حينما يحاولون لَيّ ذراع الأحكام والنصوص ووضعها خارج سياقها الحقيقي لتقليص الهوة بينها وبين هذه القيم والحقوق.
وعوداً على خطبة الجمعة التي أثارت الجدل المتوقع غير المفتعل، والحديث الذي شكل صدمةً للعديدين وأنكروه وشككوا فيه، فهو ما رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان الذي وافقه وصححه الذهبي والألباني ونصه: "قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر، قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير، قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر، قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك، قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
جماع النصوص والتفاسير حول هذه المسألة تنتهي جميعها إلى أن الخروج على الحاكم وإن كان "ظالماً عاصياً فاسقا" مفسدة ومحرم شرعاً إلا في حالة "الكفر البواح" أي الكفر الأكبر الصريح بالخروج من الملّة.
يتفاوت العبء السياسي-الأخلاقي لهذه النصوص حسب النظم الحاكمة والثقافة السائدة في الدولة، فلا يجد علماء الوهابية والسلفية مثلاً حرجاً في تأكيد معناها الحقيقي ومؤادها، كما هو في الفتاوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء في السعودية ومفتيها الراحل عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء مثل صالح الفوزان وابن عثيمين، حيث حكم الفرد والبيعة الأبدية، والأمر نفسه بالنسبة للتيار السلفي في مصر في موقفه الأصلي قبل نسخة حزب النور المتحورة التي ظهرت قبيل الإنقلاب العسكري سنة 2013 حينما وجد شيوخ الحزب أن الحصول على نصيب من الكعكة ولو كان فتاتها يستحق تقديم السياسة على القداسة، أما في الدول التي تتنسم شيءً من الديمقراطية مثل تونس، فالموقف يختلف، حيث يتجاهل شيوخ حركة النهضة هذه النصوص مرحلياً ليتجنبوا ما تفرضه من دايلاكتيك حتمي بين أيديولوجيتهم الدغمائية “Dogmatism” النظريات الاشتراكية واللبرالية والمقاربات الحقوقية.
لم يكن المشهد عندنا بحاجة إلى لطشة سريالية تعقد المعقد، فما بين لجنة إصلاح تسعينية تحاول استجماع قواها للوصول إلى مبتغاها، و"قضية فتنة" منظورة أمام القضاء، بدأ المتابعون يبحثون عن رابط –في الغالب غير موجود- بين خطبة طاعة ولي الأمر وهذه الأحداث.
إذا كان وفاض البعض عندنا خالياً من نقول تعزز القيم الديمقراطية والتعددية الحزبية وتداول السلطة، فأضعف الإيمان أن يصمت هؤلاء، فلا يستحضروا النصوص والقصص التي تكرس الاستبداد والحكم الفردي، في وقت يسعى فيه الملك لإحداث تغيير في منظومة الحياة السياسية يلبي تطلعات شعبه ويرتقي إلى مستوى طموحه، فالملك ليس بحاجة لفقه الانقياد والطاعة بل لتحقيق ما ينادي به من المشاركة على أساس الحوار والقناعة.