المسافة قصيرة وبعيدة بين القدس وغزّة
المسافة بين مدينة القدس ومعبر بيت حانون (إيريز) قصيرة (67 كلم) نسبيا، حيث لا تتجاوز مدّة السفر إلى قطاع غزة بالسيارة أكثر من ساعة. وقد قرّبت الأحداث منذ عملية طوفان الأقصى بين أبناء بيت المقدس والقطاع من حيث المشاعر والتضامن والوحدة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، أحدث التقارب العاطفي والوطني أثرا كبيرا وصعبا على حياة المقدسيين وعملهم. فقد شكل الرابط بين غزّة والأقصى مدخلا للمحتل بشكل خاص، وغالبية الإسرائيليين بشكلٍ عام، للبطش والتنمّر ومحاولة استرداد التفوّق الذي شكّل النجاح العسكري يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي سببا للغضب العارم لديهم.
لقد عانى المقدسيون بالذات منذ توقيع اتفاقية أوسلو التي استثنتهم في الفترة الانتقالية (المستمرّة بعد 30 عاما) بسبب الانفصال الإجباري عن باقي الأراضي المحتلة، فقد حوّل الجدار الإسمنتي والجدارات الإدارية المتعدّدة المقدسيين إلى أيتام سياسيين، لا مرجعية فعّالة لهم (رغم تعدّد المرجعيات الشكلية)، ولا وسيلة للتأثير على صانعي القرار بحقّهم.
كشف "طوفان الأقصى" الاحتكار والعنجهية العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وقد أعاد ذلك الفرح للمقدسيين وللشعب الفلسطيني المظلوم وحتى شعوب العالم التي تعاني من بطشٍ وتمييز. ولكن هذا التعاطف لم يكن مقبولا من المحتل الذي استعان بأعوانه في الغرب، في محاولة يائسة لإعادة التفوّق والردع المفقود. وفي القدس أصبح الشغل الشاغل لقوى أمن الاحتلال، وحتى لعديد من المشغّلين الإسرائيليين، مدى التعاطف الفلسطيني مع حركة حماس ومدى التضامن والرفض ضد العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل ضد الأهل في قطاع غزّة، فقد شكّل إعلان حالة الحرب وضعا غير مسبوق في القدس، من حيث تجميد، رسميًا وغير رسمي، أي شكل من الحقوق المدنية التي كانت متوفرة للمقدسيين، على إثر الضم الإسرائيلي للقدس الشرقية، فأصبح التعبير عن الرأي ممنوعا، وترجم أفراد شرطة الاحتلال التعابير المقزّزة للمسؤولين الإسرائيليين بشأن وحشية الفلسطيني تصريحا بتفتيش أي شابّ أو شابّة واعتقالهما بدون أي رادع أو قيود قانونية.
وبالتوازي مع بطش المحتل، يتدخّل عديدون من أصحاب المصالح التي تشغل المقدسيين في خصوصيات أبناء القدس، من حيث البحث والتفتيش في أغراضهم الشخصية في معرفة ما تحتويه هواتفهم الخلوية من أخبار وتعليقات وفيديوهات قد يعتبرها المحتل تحريضا وتضامنا مع من يعدّهم وحوشا وحيوانات، حسب التعبير المشين لقادة الاحتلال الذي استمر منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى في تنفيذ سياسة مخالفة قوانين الاحتلال وتصريحات المسؤولين فيه، حيث كانت هذه تتمركز دائما حول مبدأ أن الجدار العازل ونقاط التفتيش داخل مدينة القدس هي لأسباب أمنية، وليست حدودا داخل المدينة.
إلا أن تلك الأقوال والمواقف تلاشت، بحجّة أو بدون حجّة، بعد إعلان حالة الحرب، فأصبح التمييز أكثر وضوحا بين المستوطنين الذين يُسمح لهم بالتنقل بسياراتهم وبدون قيود، في حين جرى تطبيق سياسة عنصرية في الأحياء الفلسطينية التي تم فصلها عن بعض، وأصبح التنقل بينها صعبا وأحيانا ممنوعا، حيث يُسمح فقط الوصول إلى منطقة معينة مشروطا بأن يكون عنوان المقدسي في تلك المنطقة مثبتا على الهوية.
ومع إغلاق نقاط التفتيش، وخصوصا حاجز قلنديا وقبّة راحيل (بيت لحم) وغيرهما، أصبح من الصعب لحوالي مائتي ألف فلسطيني يسكنون خلف الجدار الوصول إلى البلدة القديمة أو باقي أحياء القدس والقدس الغربية بدون عناء، وبالاضطرار لاستخدام نقاط التفتيش الخاصة بالمستوطنين.
ما يزيد من الصعوبة والخطورة. وامتنع كثيرون من العاملين لدى الإسرائيليين عن الذهاب إلى العمل، وقد وصلت إلى بعضهم تهديداتٌ بأنه سيتم فصلهم إذا استمرّ الغياب، علما أن المشغّلين لم يهتموا بصعوبات الوصول والتضييقات التي يواجهها عمّالهم. وقد شكا عاملون عديدون من أن مشغّليهم أصرّوا على البحث في محتويات هواتفهم الخاصة، للتأكّد من غياب أي مظاهر تضامن مع شعبهم. ومع استمرار العدوان على غزّة، وابتعاد أي شكل من وقف إطلاق النار، بات عاملون مقدسيون عديدون في حيرة من أمرهم، حيث أُجبر، بسبب أوضاعهم المعيشية، عديدون منهم على الذهاب العمل، ولو مع معاناة المسافات الأطول، للوصول إلى عملهم. وبعد أن محا كثيرون منهم محتويات هواتفهم، كي لا يتم طردهم من العمل.
لقد كشفت أحداث غزّة عمق العنصرية والعنجهية الإسرائيلية، وأعادت مشاعر الغضب والاشمئزاز، ما سيزيد من حالات الكبت الذي قد يتحوّل إلى انفجار عاجلًا أم آجلًا. سيقول المحتل إنه فوجئ من مسبّبات الانفجار، رغم أن السبب الرئيس هو الحالة غير الطبيعية وغير المستدامة للاحتلال، والتي لا علاج جذريا لها سوى الحرية والاستقلال