العودة الى الحلم الأَكبر
لما وصلني خبر الموافقة على مشاركتي في أعمال المؤتمر السادس لحركة فتح الذي سيعقد في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية في 4/8/2009امتلأتُ بهجةً و سروراً و سعادةً لا تعادلُها سعادة العالم بأسره ،وبتُّ أعدُّ الأيام والساعات والدقائق لهذا الحدث الهام في حياتي، كيف لا وقدماي ستطآن لأول مرَّة أَرض اَبائي وأًجدادي،تلك الأرض التي قدَّمنا لأجلها الكثير من الدماء والتضحيات، الأرض التي شغلت العالمَ بأسره. ترى هل سيتحقق هذا الحلم بعد مضي 61 سنة من الآلام والعذابات والتشرد والتضحيات؟ أًم سيطرأ حدث ما يَذَرُ هذا الحلم في مهب الريح؟لقد أحسست أن قلبي وعقلي قد سبقاني إلى الوطن قبل وصول جسدي إليه.
انطلقنا من بيروت إلى العاصمة الأردنية عمان يوم 30/7/2009، بتنا ليلتنا في أوتيل land mark في عمان.
صباح 31/7/2009 انطلقت الباصات نحو جسر الملك حسين وكنت كلما اقتربت أكثر تجاه فلسطين كلما ازدادت خفقات قلبي.
شعورٌ لم أستطع وصفه، شعرت بارتفاع ضغطٍ وأوجاعٍ في الرأس، وصلنا معبر اللنبي"أول تواجد إسرائيلي على أرض الوطن" ، طُلب منا النزول من الباصات، وكان في استقبالنا مندوبون عن السلطة الوطنية الفلسطينية لإنهاء معاملات الدخول.
شعور غريب هذا الذي انتابني، أنا أقف أمام عدوي ،مغتصب الأرض الذي تسبب بتشُّردنا ما يزيد عن الستين عاماً ،معظمهم من المجندات الإسرائيليات، هذا العدو الذي طالما شاهدنا ممارساته القمعية بحق شعبنا داخل الوطن، أقف أمامه وجهاً لوجه، ورغم أننا لم نتعرض إلى أَية إهانة من طرفهم إلا أنني وأعضاء الوفد لم نستطع مجاملة أحد منهم، رغم انهم حاولوا جاهدين أن يظهروا لنا أنهم حضاريون، وأن يرسموا صورة مغايرة لما نعرفه عنهم.
الباصات التي ستنقلنا إلى مقاطعة رام الله كانت تنتظرنا خارجاً، صعدنا إليها، وبدأت رحلة العودة ومشاهدة الوطن. نفسها دموع الفرح التي سالت على خدَّي عندما وطئتْ قدمايَ أرض الوطن، تحوَّلت إلى دموع حزن وغصّة في القلب. شعرت بضيق نفس وضيق صدر، المشهد كان قاسياً: حواجز العدو في كل مكان، المستوطنات كالأخطبوط تحيط بالمدن الفلسطينية، جُدُرٌ تخنق الحياة وتقضي على كل معاني الحياة،معسكرات وأبراج مراقبة، أسلاكٌ شائكة ومكهربة. شعرت بالمعاناة وحجم المأساة التي يعيشها أهلنا داخل هذا السجن الكبير من خلال عيون الأطفال التي غابت الضحكة عن وجوههم.
هذا المشهد الاحتلالي لم أستطع تحمُّله طيلة فترة وجودي على أرض الوطن. وصلنا إلى مقر المقاطعة الذي حوصر فيه رمز الشعب الفلسطيني" ابو عمار" والذي اغتيل فيه على مرأى من العالم أَجمع والذي لم يحِّرك ساكناً لفك الحصار عنه.
أول شيء قمنا به ،ووفاء لهذا الرمز العظيم زيارة ضريحه الذي يتناوب على حراسته اثنان من الحرس الرئاسي على مدى أربعٍ و عشرون ساعة، كيف لا وهو الذي أولى الاهتمام الأكبر لقضيته و شعبه وللبنان الذي تحمل الكثير في سبيل قضية فلسطين. كان المشهد مؤثِّرا ًجداً لدى رؤيتنا الضريح، حيث سالت هناك الدموع الكثيرة وقرأت الفاتحة ترحُّماً على روحه.
بعد تناول الغداء في قصر الضيافة في مقر المقاطعة الذي أقامه الرئيس محمود عباس على شرف الوفد انتقلنا إلى بيت لحم ونزلنا في فندقها "بيت لحم".
انتهت أعمال المؤتمر التي تكلَّلت بالنجاح، و النجاح الأكبر للمؤتمر كان هذا الجمع الكبير لقيادات حركة فتح من جميع أصقاع العالم، وعلى أرض الوطن، وسيكتمل هذا النجاح عندما يتم تنفيذ جميع المقرارات والاقتراحات التي تبناها المؤتمر والتي ستجمع وتوحد البيت الفتحاوي بقيادته الجديدة.
المشهد الثاني من الزيارة بدأ عند انتهاء أعمال المؤتمر وجولتي التي امتدت من بيت لحم إلى رام الله ونابلس وصولاً إلى طوباس وجنين وطولكرم وقلقيلية وأريحا، حيث شاهدت جمال الطبيعة الفلسطينية وخيرات "بلادنا"وخضرة أراضيها وفاكهتها الوفيرة وزرقة سمائها وطقسها المعتدل نهاراً وبارد ليلاً، رغم أننا في شهر يعدُّ من أصعب أشهر السنة من حيث ارتفاع درجات الحرارة.
وجمال الطبيعة وهواءها العليل لم يعكّره سوى المشهد الاحتلالي. ففي مدينة قلقيلية وقفت عند معبر العمال الفلسطينيين الذي من خلاله يعبرون داخل أراضي الـ 48 ليعودوا مساءاً إلي بيوتهم، مشهد مذلٌّ لا يعادله إذلال سوى رؤية المزارعين الفلسطينيين الذين ينتظرون جلادهم ليفتح لهم البوابات ليعبروا إلى أراضيهم لحرثها وزراعتها.
من هذا المعبر شاهدنا أراضي الـ 48 وكفرسابا وتل أبيب وكنت أُشيح البصر إلى الأفق البعيد علَني أشاهد بلدي،عروسة البحر "عكا"حيث عاش أبي و أخوتي،فاعترتني الغصة واغرورقت عيناي.
كنا نأمل أن نصلي ركعتين في المسجد الأقصى والتجوال داخل أراضي الـ48 ولكن التصريح الذي لدينا لايجيز لنا التجول إلا داخل أراضي الضفة الغربية .ذات يوم ،بينما كنا متجهين إلى محافظة نابلس شاهدنا على مسافة بعيدة، ومن على سفح جبل لمعاناً ذهبياً يشع،ركَّزنا البصر عليه لنتأمل ماهِية هذا الشي، وفوجئنا بسائق الباص يقول: هذه قبة الصخرة، طلبت منه الوقوف لحظة لإلتقاط بعض الصور لهذا المنظر الرائع. والمحبط للعزيمة و المثبط لها هو وجود هذا الكم الهائل من المستوطنات التي تحيط بمدينة القدس، مدينة الإسراء والمعراج.
المشهد الثالث هو هذا الخُلُق الذي يتمتع به أهلنا في الضفة، فهم شعب مضياف يكرمون الضيف حق ضيافته. حتى بتنا نخجل من أنفسنا أمام هذه الأخلاق العالية، وطيلة وجودنا لم نسمع أو توجَّه لنا كلمة نابية، بل على العكس كان الاهتمام يزداد عندما يعلموا أننا جئنا من لبنان، فهم يكنوُّن كل المحبة والاحترام لهذا البلد حيث كانوا يقولون لنا دائماً "أنتم و شعب لبنان من حمى الثورة، شكراً للبنان".
المشهد الرابع هو هذا النظام الأمني للشرطة والقوى الأمنية الفلسطينية ولباسهم الرسمي حتى يخَيل للناظر أنه في دولة من الدول الأوروبية وطيلة إقامتنا لم يحدث أي إشكال، مجتمع واحد متماسك بين القوى الأمنية والشعب، يربطهم جامع واحد هو حب الوطن.
المشهد الخامس هو هذا التعايش الإسلامي المسيحي الذي ارتقى إلى أَسمى درجات التعايش،فطيلة إقامتنا في مدينة مهد المسيح"عليه السلام" لم أستطع التمييز بين المسلم و المسيحي،حاولت بشتى الطرق من خلال تعاملي مع البعض طرح السؤال عن ديانتهم، لكني لم أجرؤ على ذلك ،خوفاً من المس بقدسية هذا التعايش.
لكن ومع وجود كل هذه المعطيات الإيجابية، هناك هذا الاحتلال الجاثم على صدر أهلنا، ينغّص حياتهم اليومية حيث يقوم بالاعتقالات، ووجوده يتعارض مع بسط السلطة الفلسطينية نفوذها على الأراضي والمدن التي هي أساساً تحت السيادة الفلسطينية.
المشهد السادس والذي أعتبره مخيفاً أنه خلال فترة وجودي في فلسطين لم أشعر بوجود ثقافة المقاومة،لم أسمع من يتكلم عن المقاومة،إلاّ من رحم ربي. لم ألمح راية من رايات حركة فتح أو راية أي فصيل فلسطيني آخر، وزالت دهشتي عندما علمت أن فتح قد ذابت داخل السلطة الفلسطينية، وإن جاز التعبير فالكثيرون هنا قد "دُجِّنوا" وتعايشوا مع الواقع المر والأليم الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي عليهم رغماً عنهم.
أذكر أنني قمت في يوم من الأيام بزيارة صديقة في في رام الله، سألتني سؤالاً، وطلَبتْ أن يكون الجواب صريحاً : هل تفضِّل البقاء والعيش هنا، أم تفضل العودة الى لبنان؟ وفوجئَت بالجواب، حيث أجبتها بصراحة : لا ،أُفضِّل العودة إلى لبنان. ولكنْ هذه أرضك وبلدك، أجابت.
طبعاً هذه أرضي وأرض آبائي وحلمت كثيراً بالعودة إليها، ولكني أرى أنكم اعتدتم وجود الاحتلال وبدأتم تتعايشون معه وهذا أمر مخيف ،لأنه يقود إلى التطبيع مع هذا العدو، حتى حركة فتح بدأت تذوب داخل السلطة ولم أسمع منذ وجودي هنا من يتكلم عن مقاومة الاحتلال، والعدو يعتقل من يريد ويقيم الحواجز أحياناً داخل الأحياء الفلسطينية، وكأني بكم أرى الحلم الفلسطيني الذي عشنا من أجله 60 عاماً قد انتهى .أنا افضِّل العودة إلى لبنان حيث هناك الحلم الأكبر، صحيح أن صوتنا أحياناً لا يتعدى مسامعنا هناك ،ولكن أقله ما زلنا نحلم أن هناك قضية وهناك فلسطين وهناك مقاومة و هدف نعيش لأجله ،ونستطيع أن نحلم ونفكر بصوت عالٍ، نستطيع أن نقول "لا" متى شئنا،ونعم متى أردنا، نحن في لبنان ما زلنا نحمل راية المقاومة،راية فتح وستبقى مرفوعة شاء من شاء و أبى من أبى.
عدت إلى لبنان والحسرة تعصر قلبي.هونفسه الشوق الذي حملني إلى وطني،عاد ليحملني إلى أرض المقاومة.لقد شعرت بالغربة وأنا في وطني بوجود هذا الاحتلال العنصري.
لقد كنت أسارع الخطى للوصول إلى أرض الوطن،وكلما اقتربت أكثر كنت ظانُّ نفسي أنني وصلت، ولكن الحقيقة أنني كنت أبتعدعن وطني الذي أحلُم. فليست المسافة الجغرافية هي التي تقرِّبنا أو تبعدُنا عن الوطن، وإذا كنا نؤمن بالمفاوضات طريقاً لاسترداد الأرض، فيجب أن تكون هناك مقاومة تدعم المفاوض الفلسطيني،فالمقاوم القوي خيرٌ من المفاوض الضعيف،وليس بالمفاوضات وحدها نستعيد الوطن ، فأقرب طريق للوصول إلى الوطن هي المقاومة، فالمقاومة وحدها تطوي المسافات بيننا وبين الوطن مع عدو لا يرعى حرمة لا لبشر و لا لشجر ولا لحجر.











































