"الديماغوغية الدينية ومتلازمة ستوكهولم عَمّانوم"
يقول الكاتب الأمريكي الساخر هنري لويس مينكين: "الديماغوغية هي قيام الشخص بالدعوة لمذهب يعلم بطلانه ويقنع به قوم سُذَّج". هذه المقولة تلخص "الديماغوغية" بوصفها إحدى الطرق غير الممنهجة في الممارسة السياسية التي تعتمد على العزف على وتر حساس لدى الجماهير لاستثارتها من أجل تحقيق غرض سياسي معين يستحيل تحققه من خلال المنطق والحوار والطرق الديمقراطية، هذا الغرض غالباً ما يتغيّا تجييش الشارع لتوسيع قاعدة شعبية لحزب أو جماعة معينة من خلال ترسيخ فكرة غير ناضجة في ذهن متبنيها،، فيلجأ من أجل تحقيق ذلك إلى اتباع ما يمكن أن يُسمّى ب"إرهاب العناوين" الذي يعتمد على طرح الفكرة السياسية المُأَدلَجة -أو ربما غير المُأَدلجة- تحت عنوان عريض يلامس أكثر القيم السائدة حساسيةً لدى الجماهير؛ بحيث يغدو مجرد معارضة عنوان الفكرة أو حتى مناقشته من التابوهات لأنه يضع المعارض له أو المُجادِل حوله في الخانة المقابلة للفكرة محل العنوان والتي ترتبط حتماً بقيمة دينية جوهرية،، لتصبح المعادلة: "من ليس معنا فهو ضد القيمة والمبدأ الذي أجمعت عليه الأمة"! يتشابه أثر الديماغوغية الدينية والسياسية في كثير من جوانبه وآثاره مع عَرَض "متلازمة ستوكهولم" المعروف في علم النفس الجنائي والذي يدفع الضحية المخطوفة أو المُرتَهنة إلى التَعَلُّق بالجاني الذي يختطفها نتيجةً لنشأة رابط نفسي وعاطفي معه يتبلور تلقائياً في محاولة الضحية لبناء خط دفاع ذاتي تفرزه عوامل الخوف والضعف إزاء سطوة الجاني وجبروته، وقد تبلغ "متلازمة ستوكهولم" مداها إلى حد تبرير الضحية لما يقع عليها من جرائم بل والذود عن مرتكبها. الديماغوغية –الدينية منها خصوصاً- في جوهرها تستهدف اختطاف الضمير والوعي الجمعي لعامة الشعب المستهدف في وتغييبه لتجريده من أي سلاح فكري يمَكِنه من تقييم ما يُطرَح عليه من عناوين وشعارات دينية أو وطنية عاتية وجعله يسلّم بها دون تردد ويُقدّس أصحابها ويقاوم معارضيهم. ليس عبثاً استخدام أكثر حركات الإسلام السياسي شعبيةً شعار "الإسلام هو الحل"، هذا الشعار البسيط في مبناه الإرهابي في نتائجه على كل من يعارضه، يضع سلفاً كل من يُجادِل فيه في خانة الكفر والخيانة الصريحة لثوابت الأمة وقيمها، إذ سوف يتم تأطير أي رأي مخالف لهذا الشعار على أنه تشكيك في الإسلام وطعن فيه وكأن العنوان المستخدم لغرض وسياق سياسي محدد بات مُختَزِلاً للقيم والثوابت الدينية للأمة بأسرها، فخطورة هذا الاستخدام الخبيث لهذه العناوين الديماغوغية تكمن في أن مستخدميها ومروجيها يعزفون على أشد الأوتار حساسيةً لدى العامة فتبدو أي جملة مخالفة أو حتى متسائلة عن فحوى الشعار أو ما يندرج تحت العنوان؛ نغمةً نشازاً ينبغي إسكاتها دون تحقيق أو تدقيق. يُحَقِق نهج الديماغوغية الدينية في غائيته السياسية هدفين رئيسيين لرعاته: الأول يتمثل في تسويق وبيع البضاعة السياسية الكاسدة في غلاف ديني، بينما يتمثل الهدف الثاني في إقصاء المنافسين من خلال الصبغة الإرهابية الاستئصالية الضمنية التي تنطوي عليها عناوين ومضامين الشعارات المستخدمة. بدورها، لم تجد بعض الحركات القومية الوحدوية في حقبة الستينيات بأساً في توظيف النهج الديماغوغي لتعزيز مكانتها السياسية وقاعدتها الشعبية خصوصاً مع التهاب مشاعر الأمة إثر احتلال فلسطين ومع ظهور حركات التحرر الوطني في العديد من الدول العربية التي ناهضت الاستعمار وما واكب ذلك كله من صعود نجم الحركات الشيوعية والفكر الاشتراكي بنسخته الشرق أوسطية، فكانت النتيجة هي انقلاب السحر على الساحر، حيث تم إقصاء الحركات الدينية السياسية لحساب الأحزاب والمجموعات القومجية التي لم تسَلَم من بطشها حتى الحركات التي تتبنى أيديولوجية معارضة ولو لم تكن دينية كما حدث في قمع التيار الناصري للشيوعيين والأخوان في آن واحد. قد تختلف الضحية وقد يتغير الجلاد، ولكنّ الثابت هو المفعول الأكيد للنهج الديماغوغي الديني بجانبيه الاستقطابي والاستئصالي وما يصاحبهما من عَرَض "متلازمة ستوكهولم". أغرى الأثر الفوري لنهج الديماغوغية الدينية وسهولة استخدامه خصوصاً مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي وفضاءاتها الافتراضية العديد من المجموعات والأفراد في بلدنا لتوظيفه لتحقيق مصالح شخصية أو حزبية مرحلية أو طويلة الأمد دون تبصّر بالأثر البعيد لمثل هذا المَسلَك الخطير. تُجَسّد حالة الصخب المُفتَعلة حول البرنامج الساخر الذي بثّته قناة رؤيا وما دوّنه النائبان رائد حجازين وطارق خوري واحدةً من الأمثلة الحية على توظيف الديماغوغية الدينية لتحقيق غايات سياسية بأقصر الطرق ولكنّ ليس بأنظفها. العامل المشترك بين مالك قناة رؤيا وحجازين وخوري هو أنهم جميعاً مسيحيون، وهنا تبدأ لعبة استخدام أداة الديماغوغية الدينية، فليس من الضروري البحث في حقيقة محتوى البرنامج أو التغريدات التي أثارت الغضب طالما عزف راعي القطيع ترنيمة: "غير مسلمين ويستهدفون الدين... "، لتتشكل فوراً على إثر ذلك موجة تسونامية غوغائية تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي تبدأ تغريداتها وتنتهي بعبارات طائفية مقيتة تنم عن سطحية مدوِّنيها وعمق أثر "متلازمة ستوكهولم" عليهم وانقيادهم لنداء الراعي دون أن يقرأ جُلَّهم محتوى المادة الإعلامية محل الجدل. المدهش والمحزن في آن أن شخصيات محسوبة على طبقة المثقفين والإعلاميين أصيبت هي الأخرى بعَرَض "متلازمة ستوكهولم" فانجرفت خلف رعاة الديماغوغية الدينية وانخرطت في تيار السباب والاتهام دون أن تحاول التثبت مما يُقال أو تحليل السياق الذي قيل فيه، حتى أن كاتباً كبيراً ومقدم لبرنامج سياسي نقدي في قناة رؤيا –وهو ممن أكنّ لهم كل احترام وإعجاب- أعلن عن وقف برنامجه؛ معلّلاً ذلك بأنه يريد تفسيراً من القناة كيف يتم السماح بمثل هذه "الإيحاءات" في برنامج للأطفال! وقبل أن تبيّن قناة رؤيا أن البرنامج ليس للأطفال كان الجميع من متابعيها –فضلاً عن العاملين فيها أو معها- يعلمون أن البرنامج للكبار وفي توقيت متأخر وأنه ذات طبيعة نقدية ساخرة. الغريب أن هذا "المتبرئ" من القناة هو من وضع نص العمل المسرحي "الآن فهمتكم" والذي تجاوز الحوار في بعض مشاهده حد الإيحاء والتلميح إلى ما يلامس التجسيد الجنسي والتصريح، ولو سئل عن هذا لبرره ب"السياق الدرامي للعمل... والخط الكلّي الغائي... والتماهي مع الحالة والواقع الذي يعيشه المتلقي..." وكلها من وجهة نظري تبريرات –إن قيلت- تحمل منطقاً مقبولاً، ولكنّ ما ليس فيه منطق أن ينحاز قائلها لموجة الغبار الديماغوغي التي يقودها منافقون يعزفون على وتر الدين بريشة اختلاف الدين. إن قوة تأثير وأثر الديماغوغية الدينية على مجتمع ما ترتبط بعلاقة تناسب عكسي مع المستوى الثقافي والمعرفي والحضاري لذلك المجتمع، وهي من حيث كونها نهجاً وأسلوباً للاستقطاب والتجييش ثابتة في آلية عملها وطبيعة أثرها، والمتغيّر الذي يحدد مدى قوتها وتأثيرها هو البيئة الحاضنة لها، فإذا وقعت النخب من مثقفين وساسة وفنانين وغيرهم فريسةً لها، فنحن إذن بصدد مجتمع من الضحايا المنقادة خلف جلاديها من فحول الإرهاب الفكري تحت تأثير "متلازمة ستوكهولم"، أو إن شاء أباطرة أسلمة العناوين وتعريبها فلتكن "متلازمة "عَمّانوم".