الحرية

الحرية
الرابط المختصر

 

الحرية مفهوم مجرد جعله بعض الفلاسفة مفهوماً ميتافيزيقياً إذا لم يرتبط بفعل التحرر (هيجل). وهو مفهوم عزيز على الفلسفة والفلاسفة الذين بحثوا به عميقاً وأقل أهمية بالنسبة للدين لأنه يتنافى مع التسليم والطاعة والخضوع.

 

وقد بدأ النقاش حوله مع الفلاسفة اليونان الذين أرادوا أن يعرفوا إلى أية حدود يمكن أن تصل حرية الإنسان، وناقشه أيضاً الفلاسفة المسيحيون في القرون الوسطى كأوغسطينس الذي سمي "فيلسوف الإرادة الحرة" وتوما الإكويني الذي غاص عميقاً في شرح "الاختيار" وهو فعل حر لا يستطيع إلا الإنسان العاقل القيام به دون الحيوانات التي تنقاد إلى غريزتها بفعل الطبيعة.

 

اصطدم الدين، وكان لا بد له أن يصطدم، بمفهوم الحرية عندما وصل لشرح حرية الإرادة، وهل باستطاعتنا اختيار أعمالنا والاختيار ما بين فعل الخير أو فعل الشر، فقد كرّست الفلسفة العربية الإسلامية فرعاً من فروعها لمناقشة فلسفة "الفعل"، وكان المعتزلة والأشاعرة قد افتتحوا هذا الفرع عندما بدأوا يتساءلون عن قضيتين أساسيتين في الفكر العربي وفي علم الكلام الإسلامي وهما: قضية "القضاء والقدر" بفرعيها الجبرية والقدرية، فقد نسب علم الكلام الحرية المطلقة للكائن المطلق، أي إلى الله الذي يختار أعماله ويختار عباده عن سابق إصرار بما دعي في الفلسفة المسيحية Pre-destination أي الخيار السابق لله لعباده الصالحين دون غيرهم.

 

أُسيل حبرٌ كثير في معالجة قضيتي الجبرية والقدرية، وكان الأمويون قد روجوا لـ"الجبرية" في بداية علم الكلام الإسلامي ليرسخوا أسس حكمهم، وقالوا إن الله قدر أن يكونوا هم حكام المسلمين وما على الرعية إلا الطاعة، بينما روج علماء الكلام المعادين للأمويين لـ"القدرية" ليثبتوا أن الإنسان يستطيع أن يختار بين فعل الخير وفعل الشر ويملك هامشاً من الحرية مما يجعله مسؤولاً عن أعماله أمام الله وليس منقاداً أو مجبراً على العقل دون أن يكون له حرية الاختيار. وكان ردهم على "الجبرية": إذا كان كل شيء مقدراً للإنسان عن سابق إصرار، فلا تقع على الإنسان مسؤولية أي عمل يقوم به حتى لو قام بعمل الشر لأنه لا يملك حرية الاختيار.

 

لم يغب مفهوم الحرية والقضايا المتعلقة بها عن الفلسفة الحديثة، فها هو كانط يضع الحرية بين تصورات العقل الثلاث التي لا يستطيع الإنسان فهم جوهرها، لأنها قضايا ميتافيزيقية تتجاوز قدرة العقل الإنساني على سبر غورها.

 

بينما اعترف هيجل أن الحرية فكرة مجردة لا نستطيع أن نتعامل معها إلا إذا تعاملنا مع جانبها العملي أي مع فعل التحرر. فكلما قمنا بفعل تحرر (وتمرد) نكون قد مارسنا الحرية واقتربنا من فهم معناها المجرد.

 

خالفه الفيلسوف المثالي الألماني شوبنهور الذي قال بوجود إرادة مطلقة عمياء تخبط خبط عشواء، وجلّ ما يستطيع الإنسان القيام به هو التحايل أو الهرب أو التخفيف من وقع هذه الإرادة العمياء على حياته، فالحياة بالنسبة لشوبنهور كلها شقاء وتعاسة ومرض، فالتحايل على الإرادة العمياء يتم عندما نهرب من الشقاء والمرض والتعاسة.

 

عاد فلاسفة القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وخاصة الوجوديون منهم إلى مناقشة الحرية وحرية الإرادة . وقد كرّس الفيلسوف الوجودي كيريجارد كتاباً كاملاً ليشرح مفهوم الحرية الذي ربطه بمفهوم المسؤولية في مؤلفه "إما أو" Either/ Or حيث شرح أن الإنسان يملك حرية الاختيار السابقة للفعل وبعد أن يختار يصبح مسؤولاً عن الفعل الذي اختاره. وعرّف الحرية بأنها خطوة في الفراغ "أنت حر قبلها ومسؤول بعدها".

 

وخصص الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر جزءاً من فلسفته لمناقشة موضوع الحرية وخاصة أنه عاش في القرن العشرين حيث فقع مفهوم الحرية الفردية وحملته الثورة الطلابية في فرنسا سنة 1968، وكانت شعوب العالم الثالث قد قامت بثورات عديدة من أجل تحرير بلادها وشعوبها من الاستعمار الأوروبي. أيد سارتر مطالب هذه الشعوب بالحرية من الاحتلال والاستعمار، كما أيد حرية الفرد "المطلقة" في اختيار "نوع الوجود الذي يريد أن يحياه"، حتى إنه ذهب بعيداً في تأييد حرية الفرد إذا أراد أن يختار الموت على الحياة أي الانتحار وأسماه قمة الحرية. لم تولِ الفلسفة الماركسية أهمية كبيرة للحرية الفردية، إنما أيدت تحرر الشعوب ودفعتهم للقيام بثورات عديدة لأجل تحرير إرادتهم الوطنية. وللماركسية مقولة: "ما معنى حرية فردية في وطن مستعبد". بينما أيدت الليبرالية الحرية الفردية دون تحفظ.

 

بقيت الحرية بمعناها المجرد وبفعل التحرر العملي موضوعاً أثيراً ومحبباً للفلسفة لأنها مفهوم وفعل مصاحب للإبداع الإنساني، فلا إبداع دون حرية، ولا فلسفة دون حرية، ولا عقل دون حرية. لذا اعتبرت الفلسفة الحرية شرطاً إنسانياً لا غنى عنه، وينبع هذا الشرط من عقل الإنسان وإرادته. فالعقل يميز ويستطيع أن يقود الإنسان إلى الحكم لإصدار حكمٍ بحق خيار معين، والإرادة تدفعه ليختار ما هو نافع له أو نبذ ما لا ينفعه. صحيح أنه لا يمكن تجاهل الرغبة وارتباط الإرادة بالرغبة إلا أن هذه الرغبة يمكن التحكم بها ومن ثم توجيهها توجيهاً عقلياً متوازناً.

 

بينما خاف الدين من الحرية المجردة أو الفعلية واعتبر أن الإنسان الذي يختار أمراً ما يعاكس ما اختاره الله له فهو يرتكب خطأ، لأنه اختار ما يعاكس ما اختاره الخير الأعظم له. ويخاف الدين من اندفاع الإنسان في حريته حد التمرد على خالقه وعلى صانعه. مما يعرضه هو إلى الخطيئة والخروج عن طاعة الله ويعرض المجتمع والجماعة المؤمنة إلى التمرد على أوامر الله ووصاياه. لذا كان هامش الحرية صغيراً جداً أمام المؤمنين وينحصر في أمور تفصيلية صغيرة، بينما كانت دعوة الدين إلى الطاعة وتنفيذ الأوامر والوصايا دون مناقشة لأن هناك من عرف خيرهم واختار لهم ما يفعلون.

 

تدرك الفلسفة أن حرية الإنسان هي حرية نسبية ومحدودة مرتبطة بنسبية وجوده وحدوده وشروطه الإنسانية والاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، إلا أنها تدرك أيضاً أن الحرية المجردة والفعل المصاحب لها حق أساسي للإنسان وحق مكتسب لكونه إنساناً عاقلاً أثبت على مدى التاريخ قدرته على تطوير ذاته وتطوير العالم الذي يعيش فيه. وشهدت الفلسفة ذاتها أنه في الأماكن التي توفرت فيها نسبة جيدة من الحرية ازدهر عقل الإنسان فازدهرت معه الحضارة والثقافة والفلسفة والفن والموسيقى وحرية التعبير وحرية الإبداع. وازدهر الإنسان ذاته داخل منظومات ديمقراطية وعلمانية وليبرالية أو اشتراكية وفرت حرية معينة فيها للعقل الإنساني ليبدع ما يفيده وما يسعده.

 

فهل كان هيجل صادقاً عندما قال إن روح العالم ما هو إلا العقل الإنساني الذي سعى إلى تحرره في رحلة من الشرق إلى الغرب دامت خمسة آلاف سنة. هناك في الشرق كان حر واحد هو الإمبراطور والجميع عبيد له، وعندما وصلنا إلى اليونان أصبح نصف السكان أحراراً والنصف الآخر بقوا عبيداً، وبعدها بألفي سنة وصلنا إلى فكرة المواطنة حيث جميع المواطنين أحرار متساوون في الحقوق والواجبات، فهل يمكن للبشر بعد اليوم أن يتنازلوا عن حرياتهم بسهولة؟ أم أن الإنسان وصل إلى حريته ويريد تحقيق المزيد منها لا التراجع عنها.

 

*عضو الجمعية الفلسفية الأردنية وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية حاصل على دكتوراه في اللاهوت من جامعة اللاتران بإيطاليا، دكتوراه في الفلسفة من جامعة كليرمونت في كاليفورنيا دكتوراه في الفلسفة من جامعة الكسليك في لبنان.

أضف تعليقك