ما أن أتم *أحمد العشرين من عمره حتى غدا العالم ضبابيا من حوله، يقول:"صعب كثير ألاقي شغل يناسبني أو يقبلني اليوم، هذا ما سببه والدي من دون ما يعرف" تسرد والدته قصة اصابته بالربو منذ أن كان طفلا، إذ كان والده يشعل سيجارته يوميا في غرفة المعيشة، فيخنق أنفاسه، تقول:" كلما حذرته من التدخين في مكان مغلق وأثره على صحة ابنه، كان يستهتر في الأمر!"
في سن الرابعة، بدأ طفلها يعاني من ضيق التنفس، ما دفعها للهرولة به أسبوعيا إلى الطوارئ، حتى شخصت اللجنة الطبية حالته بالربو لدى دخوله الصف الأول، فحرصت على حمايته، بينما أدرك والده متأخرا وتحول للتدخين على شرفة المنزل، وبعد التخرج من الثانوية، واجه ابنه صعوبة في العمل بسبب التعب ونوبات ضيق التنفس التي تجبره على استخدام جهاز الأكسجين في المنزل، والأسوأ، أنه أصبح مدخنا أيضا.
يكشف التقرير كيف حال كل من نقص الوعي و عدم فعالية القوانين دون حماية المواطنين بشكل كامل من آثار التدخين السلبي، رغم مرور أكثر من عقد على افتتاح عيادات الإقلاع المجانية التي لم تسجل حتى الآن ارتفاعا ملموسا في أعداد المقلعين أو التزاما بعدم التدخين في الأماكن العامة.
معاناة يومية
ما عاشه أحمد من آثار التدخين السلبي يعيشه كثير من الأطفال في أسر يكون فيها التدخين عادة يومية، فنحو 65% من بيوت الأردنيين تسمح بالتدخين فيها دون أي قيود وفق المسح الوطني لاستخدام التبغ للعام 2024م، في المقابل، هناك آباء مدخنون لا يتسلل دخان سجائرهم إلى منازلهم، مثل أبومعن، شاب ثلاثيني وأب لثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين عام واحد وعشرة أعوام. بدا مدركا تماما لأضرار التدخين على أطفاله، يقول: "البيت خط أحمر، لا يمكن أن أدخن فيه أو أسمح لضيوفي بالتدخين".
يروي كيف بدأ التدخين في سن المراهقة، فلقد كان والده مدخنا شرها قبل أي شيء، أخذ نفسا عميقا كما لو أنه استعاد ذكرى مؤلمة، ثم تابع: "لكنه توفي".
تعرض أبو معن مرارا لوعكات صحية، شخصت من قبل الطبيب بأنها التهاب في القصبات الهوائية، وكان نصحه واضحا: "خفف التدخين"، إلا أنه لم يفلح في تركه، فسألته: "وهل حاولت الإقلاع؟" أجاب بنظرة يائسة: "طبعا.. اشتريت أنواعا أقل نيكوتين، أخف بلاء"، وعن سبب تمسكه بالتدخين، قال: "هي عادة ولنقل نوعا من التنفيس."
ما بين قصة العشريني أحمد والثلاثيني أبو معن، تحدثت إلي الطالبة الجامعية آية الجبور، تقول: "ممر الكلية بلا رقيب، أحيانا يعبق بالدخان، أنا لا أعاني من أي مرض، لكن يسبب لي حساسية وأشعر بالصداع" أبدت سعادتها لتوصيات مجلس التعليم العالي في ديسمبر من عام 2024؛ لمكافحة التدخين في الحرم الجامعي، تضمن قرارا بإنشاء عيادة للإقلاع عن التدخين في كل جامعة، ورصد المخالفين، ومنع بيع التبغ بجميع أشكاله داخل الأسوار، لكنها استرسلت: "أتمنى أن يطبق فعليا، ولا ينسوا سجائر الفيب".
أثر التدخين السلبي على الأصحاء
استشاري الأمراض التنفسية الدكتور محمد الطراونة يؤكد بأن التدخين السلبي لا يرحم، وخاصة عند الأطفال ومرضى الربو وحساسية القصبات الهوائية "أكثر من يتأثر بالتدخين السلبي هم الأشخاص الذين يعانون من أمراض تنفسية هذا السلوك يضعف كفاءة الرئة ويؤثر على نمو الجهاز التنفسي، ما يجعل الأطفال أكثر عرضة للأمراض"، يقول الطراونة، مستندا إلى أحدث بيانات لمنظمة الصحة العالمية التي تشير إلى وفاة مليون شخص سنويا بسببه، مقابل 8 ملايين وفاة نتيجة التدخين المباشر، وفي ختام حديثه شدد القول "نريد قانونا رادعا، لأن ما لم يُؤت بالقرآن، يُؤتَ بالسلطان."
تسلط الدكتورة نور عبيدات - مديرة مكتب مكافحة السرطان في مركز الحسين للسرطان- الضوء على المشهد أكثر لتقول:" أن التعرض القسري لدخان السجائر يعرض غير المدخنين إلى نفس السموم من المواد المسرطنة والكيميائية السامة، سواء كانت السيجارة تقليدية أو الكترونية" وتضيف عبيدات إن التعرض المتكرر لها يؤدي إلى الإصابة بعدد من الأمراض فضلا عن التهابات الأذن والأنف، وكذلك موت الرضيع المفاجئ، أما البالغين ففرصة الإصابة بالأمراض المزمنة مثل سرطان الرئة وأمراض القلب والجلطات، وأكدت تأثيراته السلبية على القدرة الإنجابية وانخفاض وزن المواليد الجدد نتيجة لتعرض المرأة الحامل للتدخين السلبي.
ولا تتوقف المخاطر عند حدود الجسد، كما يوضح الدكتور حسين الخزاعي أخصائي علم الاجتماع بالقول :" يتسبب التدخين بخلافات اجتماعية كثيرة منها مشاكل بين زملاء العمل المدخنين وغير المدخنين، فالمدخن يعتبرأنها حرية شخصية، أيضا تتشكل قدوة سلبية للأطفال وأضرار بحقوق الأطفال وكبار السن وذوي الإعافة، وبلا شك خلاف بين الزوجين" وأشار لفتوى الأزهر الشريف ما يجيز للمرأة طلب الطلاق في حال كان زوجها مدخنا.
تشريعات رقابة وتجاوزات
منذ توقيعه لاتفاقية مكافحة التبغ والتدخين (FCTC) عام 2001 سن الأردن قوانين متلاحقة لحظر الإعلان والتدخين في الأماكن العامة وداخل المركبات وفق قانون السير، وفرض ضرائب تضاعفت ما بين قانون الصحة العامة لعام 2002م وعام 2008م فمن حبس لأسبوع وغرامة 10 دنانير إلى شهر وأكثر وغرامة ما بين 100-200 دينار.
ورغم رفع الضرائب على السجائر استجابة للمادة (6أ) من الاتفاقية الإطارية كوسيلة تعتقد منظمة الصحة العالمية أنها مجدية؛ للحد من تعاطي التيغ وخفض الوفيات تحقيقا لهدف التنمية المستدامة المتصل، لم ينجح الأردن في فرض حظر كامل على التدخين في الأماكن العامة إلا بنحو مؤشرين فقط، مقارنة بالسعودية وعُمان اللتين حققتا حظرا شاملا مع ضرائب بلغت 73.8% و66% على التوالي.
وعن مفارقة الحديث الرسمي عن أضرار التبغ وعدد الوفيات والسماح بصناعته محليا واستيراده، يقول الدكتور حسين الخزاعي أخصائي علم الاجتماع:” الدول لا تستطيع أن توقف صناعة التبغ؛ لأن الدخان مطلب شعبي أولا، وبدل أن تستورده فقط ستسمح بصناعته محليا، وإن كانت أضراره واضحة فيتحملها الشخص المدخن.”
وبالنسبة للاطفال، جاءت المادة 11 (د) و (ز) من قانون حقوق الطفل الأردني لعام 2022م لتحمي حقه في بيئة سليمة وصحية ونظيفة وآمنة، ومنع الممارسات الضارة بصحة الطفل، لكن لا قانون يلزم الأهالي بالامتناع عن التدخين داخل المنزل.
أما لنفاذ قانون الصحة العامة فتتولى وزارة الصحة الرقابة والتفتيش على المنشآت بالتعاون مع عدة جهات، تشير الإحصاءات أدناه إلى مضاعفة زيارات التفتيش من 8344 آلاف زيارة في عام م 2022 إلى 35715ألف في 2024، ما يعكس تشديد الرقابة ، وارتفع عدد المخالفات من 171 إلى 596 مخالفة.
يقول الدكتور غيث عويس مدير مديرية التوعية الصحية في وزارة الصحة:" مع منتصف هذا العام 2025 ما يقارب 19 ألف زيارة تفتيشية ميدانية، ونتوقع أن يتضاعف الرقم ليصل 40 ألفا بنهايته" ويضيف انخفاض المخالفات مؤشر على أن القانون بدأ يطبق بجدية، فلقد صدرت إنذارات وأغلقت منشآت لم تلتزم بالحظر.
تقابل الجهود التفتيشية بيانات رصد تعاطي التبغ العالمية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية لعام 2023م أن الأردنيين لم يحققوا التزاما تاما على المستوى العربي، إذ سجل أدنى معدل امتثال لعدم التدخين في المرافق الصحية والعامة والتعليمية ، ما بين 4 و5 من أصل 10 كأفضل معدل امتثال، بينما العراق والمغرب كانتا الأعلى في الالتزام، وما زال عدد المدخنين في ارتفاع.
رغبة تحكم خطاها التوتر
وفي مواجهة هذه التحديات، باتت عيادات الإقلاع عن التدخين تمثل أملا جديدا لمكافحة الظاهرة، خدمة مجانية اطلقها الأردن عام 2008م وفق قانون الصحة العامة رقم(47) ؛ لتلقي العلاج ببدائل النيكوتين، ولقد بلغ عددها في العام الحالي 29 عيادة موزعة على محافظات المملكة، فضلا عن عيادة خاصة في مركز الحسين للسرطان، ومن الملاحظ أن أغلب مواعيد زيارة العيادة ما بين الساعة التاسعة صباحا والواحدة ما بعد الظهر، أي في أوقات دوام العاملين.
يوضح الرسم البياني أعداد المقلعين عن التدخين، لكن المقارنة الدقيقة مع عدد المراجعين ظلت غائبة لسنوات؛ لأن وزارة الصحة لم تكن تفصل بين عدد الزيارات وعدد المراجعين، وهو ما جرى فقط في عام 2023، حين سُجل 4924 مراجعا، ليرتفع الرقم في 2024 إلى 10208، بمعدل تغير تجاوز 107%. وبما أن الشخص قد يزور عيادة الإقلاع عدة مرات، فإن الفصل بين الأرقام ضروري لفهم الواقع وتقييم فعالية معالجة الظاهرة.
وعن انعكاس الوعي على ترك التدخين يضيف عويس :" موضوع التدخين كاملا مسؤولية مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ، فلقد وصل التدخين لدينا حد الإدمان، لقد أصبح عادة وهذا خطير، لذا فإن خفض النسبة تحتاج تظافر جهود الجميع، فضلا عن إرادة المدخن الجادة في تغيير سلوكي واجتماعي".
اما الدكتورة هبة أيوب متخصصة في علاج الإدمان عن التبغ، وكطبيبة في أول عيادة للاقلاع عنه أشارت على إدارة التوتر وقلة الوعي، تقول "وجود التوتر طبيعي لدى الناس فمن الهم الاقتصادي والسياسي فالأحداث في غزة لأكثر من عام وما يسمع ويرى من الإبادة تسبب بتوتر غير عادي ، ومشكلتنا قلة وعي في إدارة التوتر، فباستطاعة الفرد أن يحله بشكل آخر غير تناول سيجارة، كأن يتمشى لنحو ربع ساعة، أو يسمع الموسيقى، يرسم، هوايات بسيطة تخفف التوتر".
دور معالجة الإدمان والسياسات الست
هذا ما يقود إلى أن الإقلاع عن التدخين ليس سهلا وفق أيوب مع كل مراجع لعياداتها اعتادت أن تقول له "جرب، وبأسوأ الأحوال لن تخسر شيئا" تضيف : " ليس سهلا، لأنه لا يعتمد فقط على إرادة المدخن، بل على خبرة وقدرة المعالج في فهم حالته ، وتصف دورها باستيعاب الحواجز النفسية، تفهم ظروف حياة المدخن والمواقف التي تدفعه للتدخين، تحدد نقاط القوة والضعف، ثم تضع خطة علاجية تمتد لثلاثة أشهر بين مشورة، إرشاد، وبناء مهارات.
توضح أن عدم ثقة المدخن بقدرته على الإقلاع تعود لاستذكاره مواقف صعبة في حياته فشل في حلها، فتترسخ لديه عدم الثقة بنفسه، وتقول: "دوري أن أتعامل مع مخاوفه" ، وبحسب أيوب ثلثي الأردنيين يرغبون في ترك التدخين.
تشرح أن فترة الانسحاب مصحوبة برغبة شديدة في التدخين، وتوتر وقلة تركيز، تحتاج دعم الأهل وأدوية تساعد على تخطيها، وتختتم بابتسامة مستذكرة بعض من نجحوا في الإقلاع عنه بعد أن كانوا يأتوها لأول مرة عصبيو المزاج لكن بعد المراجعة الثانية غالبا يتغير الحال، تقول: " جاءني مريض مبتهجا يحمل حلوى احتفالا بتركه التدخين، وقال مستعد يحكي قصة نجاحه للإعلام إذا في مقابلات ؛لأنه تعب من الدخان."
وبينما يلعب المعالجون دورا حيويا، أظهر تقييم "MPOWER" - الموسوم باسم " السياسات الست" لعام 2025 - التزام الأردن بمكافحة التبغ، إذ حققت وزارة الصحة تقدما في خمسة من أصل ستة مؤشرات، لكنه أشار إلى تباعد الدراسات وعدم الالتزام بكتابة عبارات تحذيرية على عبوات السجائر بلا دخان، عزت وزارة الصحة ذلك لعدم تحديث قانون الصحة العامة منذ 2008، ما سمح بطرح هذه المنتجات دون صور أو نصوص تحذيرية، خلافا للسجائر التقليدية.
وأوضح الدكتور غيث عويس أن العمل جارعلى اصدار دراسات حديثة تشمل طلاب المدارس في القريب العاجل، معولا على خطة عمل تستند إلى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التبغ والتدخين 2024-2030.
مطالبة بالحد من التضليل وتغليظ العقوبات
وسط ازدياد الحملات الدعائية للسجائر الإلكترونية بوصفها "الخيار الأقل ضررا"، وانسياق اليافعين خلف المزارعم ولجوئهم إلى "الاستخدام المزدوج" تحذر الدكتورة نور عبيدات، أن السجائر الإلكترونية ليست وسيلة للإقلاع، ولا خيارا آمنا، بل تحتوي على النيكوتين المسبب للإدمان، كما أظهرت الأبحاث أن غير المدخنين الذين يبدؤون بها يصبحون أكثر قابلية لتجربة منتجات التبغ الأخرى، وهذا ما أوضحته في ورقة توصيات مركز الحسين للسرطان.
وتنتقد الدكتورة هبة أيوب بيئة المجتمع المرتبطة بالسياسات أحيانا، تقول:" الوضع لا يساعد على خفض نسب المدخنين.. فالبيئة المحيطة من البيت للأماكن العامة، كتقديم الأرجيلة في المطاعم ، وان يدخل طفل لبقالة ليشتري علبة لبن فيرى عروض السجائر ليعتقد أن الأمر مقبولا، ناهيك عن منتجات توحي بأنها صحية، وهذا تضليل".
أما الدكتورة نهلة المومني، مفوضة المركز الوطني لحقوق الإنسان، فتقول:"رغم المنظومة التشريعية والاستراتيجيات في الأردن، إلا أن ضعف التطبيق ما زال يؤثر على صحة الأطفال بشكل خاص ما يستدعي تفعيل المنظومة التشريعية ورفع الوعي لدى أولياء الأمور بمخاطره" وتضيف أن مكافحة التبغ حق أساسي من حقوق الصحة نص عليه العهد الدولي، واتفاقية منظمة الصحة العالمية أداة ملزمة للحماية.
الصورة الحاضرة قاتمة، تبقي التدخين السلبي ظلا ثقيلا يخيم على حياة الأردنيين، حيث يؤذي المدخنون أحبائهم، من المنازل إلى أماكن التعلم والعمل، يأمل أحمد أن تتغير، لو كان والده يمتلك الوعي الكافي ليحميه من هذا الخطر، بينما تحلم آية بأن يكون ممر كليتها معطرا بالجوري، لا بدخان السجائر وأن يعي الشباب مخاطره.











































