الأشخاص ذوو الإعاقة على ذيل سلّم الأولويات في حرب غزة

 

 من الطبيعي أن ينقلب سلّم الأولويات وقت الحروب والنزاعات المسلحة، فيصبح ضروري الأمس من كماليات اليوم وينصب التركيز على المحافظة على حياة الناس ومساعدتهم والعمل على إنهاء الحرب ثم إعادة الإعمار.

 

الوضع بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة خصوصاً في الدول الأقل نمواً والتي غالباً ما تكون هي ساحة الحرب يبدو معكوساً تماما، فهؤلاء الأشخاص الذين هم في الأوضاع الاعتيادية يواجهون الإقصاء والتمييز ولا تحتل حقوقهم وقضاياهم مرتبةً متقدمةً على أجندة أولويات صناع القرار في دولهم ولا الدول الأخرى، يواجهون مزيداً من الإقصاء خلال الأزمات والحروب مع أنهم الأكثر عرضةً للخطر والأقل فرصةً للنجاة وآخر من يحظى بفرصة إخلاء أو إنقاذ.

 

لكي نتخيل الوضع على حقيقته، يكفي تصور سيناريو المدنيين ذوي الإعاقة في غزة التي تتعرض لقصف وتدمير غير مسبوقين منذ أكثر من 70 يوما. فإذا استشعر سكان منزل ما حدوث غارة أو تم تنبيههم للإخلاء، فإن فرصة مستخدمي الكراسي المتحركة للهرب تكاد تكون معدومة إلا إذا تم حملهم والركض بهم وسط القذائف المنهمرة من كل اتجاه، وهذا بطبيعة الحال يشكل خطراً لا يقل عن خطر بقائهم في المنزل المستهدف. أما إذا كان الشخص من الصم فهو آخر من تصله المعلومة حول اقتراب الخطر وربما استشعر الغارة بعد حدوثها من جراء الاهتزازات في الأرض أو تساقط الجدران عليه. في هذه المرحلة (مرحلة حدوث القصف)، الشخص الكفيف مصيره مثل غيره من الأشخاص ذوي الإعاقة، فهو وإن علم وأدرك أن هناك خطر يقترب، فلا مجال للهرب والركض في هكذا ظروف إلا إذا وجد من يمسك بيده ويتطوع لانتظاره ويخاطر بتباطؤ هروبه بسبب وجود شخص آخر معه. الصورة تبدو أكثر إيلاماً إذا لم يتمكن أحد من الهرب وأصبح الجميع تحت ركام المنازل المدمرة، فالصور التي تنقلها عدسات الصحفيين من غزة تظهر طواقم الدفاع المدني والجيران يصيحون من فوق الأنقاض على من تحتها: "هل هناك أحد.. هل من أحد حي.."، فإذا سمعوا جواباً بدأوا يحاولون تحديد مكانه لإنقاذه. فإذا كان الشخص الذي تحت الأنقاض من الصم فلن يسمع ولن يجيب، أما إذا كان من المكفوفين فلن يرى أي عصا أو ضوء يرسله المنقذون وهم يحاولون تحديد موقعه، وإذا كان من مستخدمي الكراسي المتحركة فلن يكون بوسعه التحرك بأي اتجاه لتعديل وضعه ليتم إنقاذه بشكل آمن.

 

إذا تم رغم هذه الصعوبة إنقاذ الشخص ذي الإعاقة، فإنه غالباً سوف يكون آخر من يخرج من تحت الأنقاض ومن ثم آخر من يصل للمستشفى ويتلقى العلاج بعد أن يكون قد خسر وقتاً أكثر من غيره. أما إذا خرج ميتاً فهو بالتأكيد آخر من يتم دفنه والصلاة عليه إذا سمح الظروف بذلك أصلا.

 

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية أن نسبة الإعاقة في أي مجتمع هي 15% على الأقل من إجمالي عدد السكان، وهذه النسبة حتماً سوف ترتفع في ظروف الحصار ومحدودية الخدمات التي يتعرض لها قطاع غزة منذ أكثر من 17 سنة، وهي سوف تتضاعف مع توالي الحروب التي شهدتها غزة. من بين 50000 جريح جراح معظمهم خطيرة، فإن عشرات الآلاف منهم سوف يكملون حياتهم بإعاقة أو أكثر، فحالات البتر وفقدان البصر يبدو أنها كثيرة بسبب طبيعة القذائف التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في قصفه للمدنيين.

 

لا يبدو أن منظمات الإغاثة والهيئات الدولية تلتفت إلى ضرورة أن تشتمل المساعدات المحدودة التي يتم توفيرها لسكان غزة على أدوات وأدوية ضرورية ومصيرية للأشخاص ذوي الإعاقة، فأدوية الصرع والأدوية النفسية والأدوية التي يحتاجها الأشخاص الذين لديهم توحد، وكذلك الكراسي المتحركة والعكاكيز وغيرها من الأدوات المساندة لا يبدو أنها ضمن قوائم المساعدات الطبية التي يتم مرورها عبر معبر رفح.

من بين مليون وتسع مائة ألف نازح تقريبا، يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة بينهم التحدي الأكبر، فحصولهم على الماء والغذاء الشحيح أصلاً يبدو أكثر صعوبةً من غيرهم، حتى وصولهم لدورات المياه واستخدامها في هكذا ظرف هو من المهام شبه المستحيلة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود دورات مياه أصلاً لمستخدمي الكراسي المتحركة في مدارس غزة التي تحولت لمراكز إيواء للنازحين من القصف والدمار.

من كان لديه إعاقة قبل الحرب على غزة لا بد أن إعاقته قد تفاقمت ومن المؤكد أن أي خدمات تأهيلية كان قد تلقاها ضاع أثرها وأصبح بحاجة لجهد مضاعف ليعود إلى ما كان عليه قبل العدوان.

 

لقد عبّر أحد الأطفال الذين فقدوا ذراعهم الأيمن من الكتف عن حيرته وحالته حينما قال في مقابلة تلفزيونية ببراءة وألم: "كنت أتمنى أن أصبح مصوراً حين أكبر.. الآن لن أصبح مصور.. حتى مش عارف كيف يمكن أن أعيش دون ذراعي.."، هذه الرسالة المؤلمة التي تعبر عن حالة عشرات الآلاف من الأشخاص الذين أصبحوا من ذوي الإعاقة في غزة تتطلب من الجهات الداعمة وضع برامج تأهيل نفسي وجسدي لتمكين ضحايا هذه الحرب من تقبل واقعهم الجديد والنظر إلى مستقبلهم بصورة واقعية، وهنا لا بد من توظيف أساليب متطورة ومبتكرة في عمليات التأهيل يتم توظيف التكنولوجيا المساعدة فيها بشكل كبير، حيث يمكن من خلال الأطراف الصناعية الذكية وقارئات الشاشة وغيرها رسم مستقبل أكثر تفاؤلاً في عيون هؤلاء الأطفال والبالغين الذين انضموا مرغمين لعالم الإعاقة.

ترى كم كارثةً طبيعيةً وحرباً تحتاجها دول العالم لتدرك أن تدريب الكوادر وجعل خطط وخدمات الطوارئ مستوعبةً لمتطلبات إخلاء وإنقاذ وإسعاف الأشخاص ذوي الإعاقة هي ضرورةً ملحة، فلا يمكن تصور أن يكون الأشخاص الأكثر عرضةً للخطر في الظروف الاعتيادية على ذيل سلّم أولويات جهات الإغاثة والإنقاذ.

 

 

أضف تعليقك