أحرز الفلسطينيون نصراً لا يمكن التقليل من أهميته في مسيرة معركة مستمرّة، فأداء أكثر من ربع مليون صلاة التراويح في المسجد الأقصى ليلة آخر جمعة في شهر رمضان؛ ثم تأديتهم، وكثيرين تقاطروا إليهم، صلاة الجمعة في باحاته، بعثتا رسائل تحدٍّ للاحتلال الصهيوني، ليس هذا فحسب؛ وإنّما إلى السلطة الفلسطينية والأردن الرسمي، فكلاهما وقفا عاجزين عن التحرّك، وأصبحا رهينتي وعود وشروط أميركية.
وضع فشل الولايات المتحدة في الالتزام بوعودها، بضمان حرية الصلاة من دون اعتداءات من الشرطة الإسرائيلية أو المستوطنين اليهود، الأردن، في مأزق محاولة المواءمة بين الوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى وحاجته للمساعدات الأميركية المرتبطة فعلياً بتوسيع التطبيع مع الكيان الصهيوني، فتأثير واشنطن على حكومة إسرائيلية يسيطر عليها متطرّفون محدود، فهؤلاء يمثلون عجلة لطرد الفلسطينيين من القدس، وبسرعة. ولن يكون هناك تأثير حقيقي ما دامت واشنطن غير مستعدّة لأن تجمّد المساعدات الأميركية إلى تل أبيب، أو حتى أن تهدّد بهذا، خصوصاً أنّ الاجتياح الأمني الإسرائيلي لم يفجر انتفاضة فلسطينية، أو يستفزّ إطلاق صواريخ من غزة، ولم يزعزع استقرار الحكومة الإسرائيلية أو يسقطها. لكنّ الحسابات الأميركية لا تتطابق تماماً مع الحسابات الأردنية؛ صحيحٌ أنّ عمّان كانت قلقة من انفجار فلسطيني واسع، لكنّ صاحب القرار الأردني يعي أن ما حدث من اقتحامات وسقوط جرحى وخطف قوات الشرطة الإسرائيلية عشرات الفلسطينيين ساهم في تثوير الوضع الفلسطيني، رغم أنّنا لم نرَ "انتفاضة أقصى" شاملة، فالانتفاضة الكبرى أصبحت أقرب.
حين عبّر رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، في لحظة ضيق أمام النواب عن تأييده حملة الحجارة من المصلين، قوبل باستنكار مهين من المسؤولين الإسرائيليين، فهم يعتقدون أنّ على الأردن الرسمي الصمت والخنوع ليس إلّا، لكنّ كلمات الخصاونة عكست غضب الملك عبد الله الثاني، فالاستهتار بأهمية الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وأهمية إبقاء أفقٍ للعملية السياسية، هو استهتار باستقرار الأردن والنظام، وهو مؤشّر خطر للأردن. ولكن الأردن مقيّد، بل وكبّل نفسه، فمنذ فوز جو بايدن بالرئاسة في الولايات المتحدة ومغادرة دونالد ترامب، والقصر يتعامل وكأن الإدارة الأميركية معنيةٌ بإحياء العملية السياسية، ولا تريد إغلاق الباب أمام مفاوضات "سلام" مستقبلية. ويبدو أنّ القصر لم يقرأ أو لم يهتم بمسار واشنطن التي تراهن على عملية تطبيع تحالفية مبنية على الاتفاقيات الإبراهيمية لعزل الفلسطينيين ودفعهم إلى الاستسلام النهائي. لقد أغفل وتغاضى عن كلّ المؤشّرات والتصريحات الأميركية الواضحة بتحديد أولويات فرض "تهدئة" أو منع انتفاضة فلسطينية، لضمان استقرار الحكومة الإسرائيلية، وتوسيع عمليات التطبيع العربية - الإسرائيلية، التي أصبحت المرتكز الأساسي للتحرّك الأميركي، فمن وجهة نظر أميركية، أصبح الوقت مؤاتياً لدمج إسرائيل وترسيم قيادتها المنطقة، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية.
يبدو أن الأردن الرسمي راهَن، إلى هذه اللحظة على الأقل، على دور محوري للمملكة في المرحلة المقبلة، وأصبح من أولوياته استعادة دوره في الترتيبات الأميركية في المنطقة وتعزيزه، لكن هذه الترتيبات ليست أكثر من ترسيم حلف أمني في المنطقة بقيادة إسرائيل، خاصة بعد أن شملها قرار اتخذه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ضم إسرائيل إلى القيادة المركزية في ما تسمى المنطقة الوسطى، أي منطقتنا. وإذا كان الأمر كذلك، من غير المفهوم عن أي دور يبحث الأردن!، فالتوجه الأميركي واضح، وهو ربط أمن الأردن وكل دولة عربية بإسرائيل، ولا يتسع ذلك لأي حل للقضية الفلسطينية، بل يعمل على تصفيتها. فلماذا يعتقد الأردن الرسمي أن الدولة الصهيونية تهتم بالوصاية الهاشمية أو بمخاوف الأردن من إغلاق الأفق أمام إحياء عملية "سلام" موهومة؟ فأميركا لم تعد (بغض النظر عن قِصر نظر توجهها) تأبه لغضب عربي، والتطبيع لم يضر فقط بالفلسطينيين، وإنما بمكانة كل نظام عربي. .. لماذا تهتم أميركا بقلق الملك أو غضبه، بعد أن قيّدت الأردن باتفاقيات تطبيع تربط جوانب من اقتصاد البلد وموارده بالدولة الصهيونية؟ بل إن ما يحدث أن التطبيع أصبح مدخلاً صريحاً لزيادة المساعدات الأميركية، بل وتقدّم الإدارة الأميركية مشاريع التطبيع أنّها نوع من الدعم لحلّ مشكلات الأردن، وهذا ما فعلته تماما حين دفع المبعوث الأميركي لشؤون البيئة، جون كيري، مشروع تبادل مياه محلاة من البحر الأبيض المتوسط مقابل إنتاج طاقة شمسية، في وادي عربة، بتمويل إماراتي، باعتباره مساعدة كبرى للأردن.
أصبح التطبيع عنواناً للمساعدات الاقتصادية الأميركية للأردن، فيما يزداد اعتماد البلد على هذه المساعدات، وهي وصفة تُفقِد موقف الأردن أو اعتراضه من أي ثقلٍ حقيقيٍّ أو جدّي، خصوصاً أنّ الأردن بحاجة إلى تجديد قرار تزويده بمبلغ 1.270 مليار دولار سنوياً، الذي أقرّته مذكرة التفاهم الأميركية - الأردنية عام 2018، وانتهت مدّتها، ومن الصعب تصديق أن استمرار المساعدات الأميركية المترتبة على تجديد المذكرة لن ترتبط باستمرار مشاريع التطبيع. وواشنطن، أساساً، تستطيع أن تتحكم تماماً في مبلغ المساعدات، وكيفية توظيفه، وهذا في غاية الأهمية؛ لأنّها تتحدّث بوضوح عن أولوياتها وعن مشروعها. لذا؛ لا يكفي الغضب الأردني الرسمي، وإنْ كان مشروعاً، لإحداث فرق ولو صغير، فالغضب لا يرقى إلى تهديدٍ بتجميد التطبيع، واستدعاء السفير الإسرائيلي إلى وزارة الخارجية الأردنية لا يعني شيئاً لتل أبيب، فهذه رسائل لا تؤخذ بجدّية كبيرة، فهناك حكومة إسرائيلية ترى أنّ المجاملة مضيعة للوقت.
نعم، هناك توتّر في العلاقات الإسرائيلية - الأردنية، وهو حقيقي، ولكن في ضوء استمرار عمليات التطبيع وعدم توقفها لن يكون له تأثير، ومن غير الواضح ما إذا كان الأردن الرسمي مستعدّاً لاتخاذ خطوات حقيقية تزعج تل أبيب، لكنّ القصر اعتمد على علاقاته مع وزير الدفاع بيني غانتس، لدرء خطر اليمين الإسرائيلي المتطرّف، غير أن المذكور، وإنْ يخشى تهوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، لن يساهم في تقويض حكومته المهتزّة بالخلافات الداخلية.
بانتظار تجديد الدعم الأميركي، المنوط بمذكّرة التفاهم، يبقى الأردن الرسمي مكبّلاً وشبه عاجز، وقد يكون ثمن إقرار تجديد الدعم باهظا من خلال الإمعان في التطبيع، بيد أنّ ما يرفض الأردن الرسمي الالتفات إليه هو الوضع المحتقن والغاضب داخل البلاد، فتستمر الاعتقالات ويستمر تجاهل المعاناة الشعبية، مع أنّ بداية الخروج من الأزمة هو الاعتراف بأزمة فقدان الثقة المتسارع بالدولة، فواشنطن لا تهتم إلّا بتوظيف الأردن في مشروعها الأمني، ومرة ثانية وثالثة وعاشرة؛ الرهان على واشنطن خاسر، لكن إلى من نتحدّث أو على من ننادي؟
*العربي الجديد