إشاعة الرواية الإسرائيلية بالسيطرة على الإعلاميين

الرابط المختصر

تعجّ فنادق في القدس، ومنها في القدس الشرقية، بالإعلاميين الأجانب الذين قدموا ليغطّوا حرب الاحتلال على قطاع غزّة، رغم أنهم لن يعترفوا بهذا الوصف. وقد قيل سابقًا إن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، ومؤكد أن هذه المقولة تضاعفت عشرات المرّات منذ "7 أكتوبر"، فالأكاذيب التي جرى تلفيقها وتكرارها مرّات عديدة، من دون الحد الأدنى من التحقّق من الحقائق أحرجت حتى رئيس الولايات المتحدة، بايدن، الذي جرى تضليله عدّة مرّات في فترة وجيزة، ما أجبر موظفيه على التراجع وتصحيح الأخطاء الجسيمة. لقد تبنّى الرئيس تماماً الكذبة الإسرائيلية بأن حركة حماس تقطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، والادّعاء الكاذب تماماً أن الفلسطينيين يبالغون في أعداد قتلاهم وجرحاهم، من بين ادّعاءات عديدة أخرى.

استمرّت كبرى وسائل الإعلام في نشر ما ينقله صحافيوها من روايات إسرائيلية كاذبة من دون اتباع أنظمتهم الداخلية في موضوع التحقق وضرورة وجود عدّة مصادر مستقلة. وقد اعتذرت علنا مؤسّسات إعلامية عالمية كبرى، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وغيرها، ومحت مؤسسات إعلامية أخرى ببساطة أكاذيب عديدة، أو توقفت عن تكرارها.

ولعل الكذب الأكبر والأكثر تكلفة، فيما يتعلق بحياة الإنسان الفلسطيني، كان الإصرار الإسرائيلي (بالصور والرسوم البيانية) على أن مقرّ "حماس" بالكامل يقع تحت مستشفى الشفاء الرئيسي في غزّة. وكان من الممكن فضح هذه الكذبة بسهولة، لو سمحت إسرائيل للصحافيين الدوليين بدخول غزّة. تخيّل لو أن مراسل "سي أن أن" أو مراسل حرب "بي بي سي" وقف في مستشفى الشفاء، وأخبر العالم أن هذا الادّعاء الإسرائيلي غير صحيح على الإطلاق. تخيّل كم من الفلسطينيين، بمن في ذلك أطفال رضّع، نجوا، لو سمح الاحتلال للصحافيين الدوليين ببساطة بالدخول إلى غزّة. لكن دخولهم لم يكن مطلوبا أن يجري مباشرة عبر حدود الاحتلال مع القطاع، وإنما أن تسمح إسرائيل، وهي القوة المهيمنة في غزّة وما حولها، لهم بدخول قطاع غزّة بمحض إرادتهم، ولكنها رفضت وهدّدت وقصفت الحدود مع رفح، عندما حاول المصريون إدخال مواد طبية وغذائية مرّتين. وحتى في أيام الهدنة، جرى إجبار الحافلات القادمة من مصر، ذات السيادة، على الفحص الإسرائيلي الدقيق، قبل السماح بإدخال عبوة ماء أو دواء أو لتر سولار.

وفي غياب أي صحافي دولي، تمكّنت إسرائيل، بفضل آلتها الإعلامية القوية، والعدد الهائل من الصحافيين المقيمين فيها، من إشاعة السرد الدعائي المزوّد بالكامل بالأكاذيب والقصص المصنّعة والحيل والرسوم التي ينتجها الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي، وتقديمها للصحافيين الدوليين حقائق دامغة! ولم تكتف إسرائيل بمنع مصر بالقوة من القيام بأي عمل سيادي على حدودها مع غزّة، وإنما شنّت أيضًا حملة شرّيرة ضد الصحافيين الفلسطينيين والعاملين في مجال الإعلام، حيث أفادت لجنة حماية الصحافيين، ومقرّها نيويورك، أنه اعتبارًا من يوم الأربعاء، "أظهرت التحقيقات الأولية أن ما لا يقل عن 57 صحافيًا وعاملًا في مجال الإعلام كانوا من بين أكثر من 16000 قتلوا منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر". ومنذ ذلك التقرير، ارتفع عدد شهداء الصحافة إلى أكثر من 70 صحافيا وموظفا إعلاميا، قتل أربعة منهم في اليوم الأول بعد انتهاء التهدئة.

كتبت رئيسة تحرير صدى في برنامج الشرق الأوسط في "كارنيغي"، رفيعة الطالعي: "لقد أصبح الهجوم الإسرائيلي على غزّة بسرعة الأكثر دموية بالنسبة للصحافيين الذين يغطّون مناطق النزاع منذ 1992. ولم تشهد أي حرب أخرى في القرن الحادي والعشرين أي حربٍ أخرى قاتلة جدًا للصحافيين، حيث قُتل 34 صحافيًا في الأسبوعين الأولين فقط". وقال المعهد الدولي للصحافة، ومقرّه في فيينا، إنه "يشعر بالرعب من العدد المتزايد باستمرار للقتلى الذي يعاني منه الصحافيون والمدنيون وسط الحرب بين إسرائيل وغزّة". وحثت إسرائيل بقوة على "احترام حقوق الصحافيين في تغطية الصراع وفقا للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، وحماية سلامة المراسلين والعاملين في مجال الإعلام وعائلاتهم". وقُتلت عائلات بعض الصحافيين، من بينهم عائلة وائل الدحدوح، الذي قُتلت زوجته وابنته وابنه وحفيده في أثناء تغطيته الصراع لصالح قناة الجزيرة. وذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن قوانين الحرب، وتحديداً اتفاقية جنيف الثالثة، تشمل الصحافيين الذين يغطون النزاعات المسلحة، وأشارت إلى وجوب معاملتهم بوصفهم مدنيين. "تنص المادّة 79 رسميًا على أن الصحافيين المشاركين في مهام مهنية خطيرة في مناطق النزاع المسلح هم مدنيون بالمعنى المقصود في المادة 50 (1). وعلى هذا النحو، فإنهم يتمتّعون بالنطاق الكامل من الحماية الممنوحة للمدنيين بموجب القانون الإنساني الدولي". واستهدفت إسرائيل أكثر من 60 منشأة إعلامية فلسطينية، وهي جريمة حرب أخرى، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر. وذكر الصليب الأحمر أن "منشآت الإذاعة والتلفزيون مدنية. وبالتالي، تتمتع بالحماية العامة. لقد أصبح حظر مهاجمة المؤسسات المدنية راسخاً في القانون الإنساني الدولي منذ بداية القرن العشرين، أعيد تأكيده في البروتوكول الأول لعام 1977 وفي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

يقال إن المنظمات الإعلامية الدولية تقوم بتوثيق حالات قتل الصحافيين والهجمات على المنشآت الإعلامية، بهدف تقديم شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن الحرب مستمرّة والإعلاميون غائبون عن ساحة المعارك، ويستمتعون بشرفات الفنادق في القدس، وتبقى إسرائيل الطرف الوحيد الذي يغذّيهم بالمعلومة الملفّقة والصور المنتجة عبر الذكاء الاصطناعي. ومع انتهاء الهدنة الإنسانية المؤقتة، من المهم السماح لوسائل الإعلام العربية والدولية بدخول غزّة لتغطية الوضع المتفجر للفلسطينيين، الذين أصبحوا هدفاً لهجوم انتقامي لا هوادة فيه من جيشٍ غير خاضع للسيطرة وساسة متطرّفين يستخدمون الحرب على الشعب الفلسطيني ضمانا لبقائهم في السلطة.

لا ينبغي لمصر أو المجتمع الدولي، وخصوصا الولايات المتحدة وأوروبا، إلى جانب وسائل الإعلام الكبرى، أن تقبل رفض الإسرائيليين دخول الصحافيين غزّة. يجب أن يصبح طلب إدخال الصحافيين مرافقا لطلب إدخال الموادّ الطبّية. وعلى جميع الدول التي ترسل موادّ إنسانية، ومنها الأردن، أن ترسل معهم صحافيين من بلادهم. معبر رفح بين مصر وغزّة عربي - عربي، ويجب أن يكون لمصر ذات السيادة الحقّ والمسؤولية في السماح لأي صحافي عربي أو دولي يرغب بالدخول إلى القطاع بأن يستطيع أن يؤدّي واجبه الإعلامي من دون أن يمنعه الطرف الإسرائيلي؟ كما ويجب فضح إسرائيل في كل المنابر، لقرارها منع دولة عربية من تسهيل عمل الصحافيين العرب والدوليين.