أين تسهر الليلة؟...عن تحولات البار في عمّان منذ العشرينيات إلى اليوم

البارات اليوم في عمان ذات طابع غربي في الديكورات والإضاءة واختيارات الموسيقى، وحتى في الأزياء المتحركة والقضايا المطروحة على الطاولات
الرابط المختصر

كانت عمان حتى أواخر السبعينيات مدينة ثملة، راقصةٌ بطبعها، فرحة منتشية بعمرانها ومفتونة بقوامها كمدينة جديدة وشابة. هكذا نتخيلها كلما جلسنا مع العَمانيين القدماء.

لا أعرف هل هو مجرد حنين لماضٍ لم نعشه أم حقيقة، لكن كل القرائن تثبت هذه الرواية المدفونة تحت الهوية المحافظة الجديدة.

كنت أستغرب دوماً اقتران صور أهالينا القديمة بالبارات، أهالينا الذين ربونا على "الفضيلة" بعد أن ودعوا زمن عمان المجنونة.

حانات وسط البلد

البارات اليوم في عمان ذات طابع غربي في الديكورات والإضاءة واختيارات الموسيقى، وحتى في الأزياء المتحركة والقضايا المطروحة على الطاولات، في بارات عمان يتم الحديث في كل شيء بكثير من الفرح وقليل من التركيز.

أنا أفضّل بارات وسط البلد وأجدها أقرب لي من حيث الأغاني الطربية والفئة العمرية الأكبر، فأغلب روادها جاؤوا من زمن عمان الثملة.

في العام 2011 كانت المرّة الأولى في حياتي التي أدخل بها إلى بار أو فلنقل حانة، يومها كنت مبهوراً ومرعوباً ، فقد كنت أسمع عن هذا العالم أساطيراً تشبه ما يحدث داخل النوادي الليلة الرخيصة التي لا يرتادها إلا اللصوص وذوي الأسبقيات، وكنت أعتقد وأنا اضع قدمي داخله أنني أخطو أولى خطواتي في عالم الرذيلة والضياع.

لماذا يصعب تقبّل الآخر كما هو؟ شاركونا آلامكم (أو تجاربكم) إن كنتم قد تعرضتم لرفض ما، من أي نوع. شاركونا بما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

ادعمونا

البارات اليوم في عمان ذات طابع غربي في الديكورات والإضاءة واختيارات الموسيقى، وحتى في الأزياء المتحركة والقضايا المطروحة على الطاولات

دخان كثيف، أضواء خافتة، رائحة اليانسون التي تشي بكؤوس العرق، وصور الفنانين بالأبيض والأسود من الزمن الجميل، وصور بعض الشعراء، وأشخاص بعيون ذابلة أتعبها التركيز في أحاديث جدية.

شجار سياسي في البار

في الـ2011 وخلال الربيع العربي، اجتمع على طاولة في حانة من حانات وسط البلد  بعض أعضاء الحراك السياسي في عمان، فقد كان الاستقطاب السياسي موجوداً داخل البارات أيضاً، طاولة مجاورة لنا تصر على وضع أغاني للملك، بينما التي أجلس عليها تصر على "شيد قصورك" للشيخ إمام . كانت هذه جلستي الأولى في بار والتي انتهت بعراك بالأيدي. ثم توالت الجلسات، إلى أن وقعت في غرام بارات وسط البلد.

"زوربا"، "الكتكات"، "الأوبرج"، "البيكادلي" دخلتها كلها، وبحثت عن تاريخها كلها، وتعرفت إلى من تبقى من جيل عمان الحرة ومنهم سمعت ذكريات الزمن الثمل.

يبدو أن اليسار السياسي في عمان ارتبط مع بارات وسط البلد ارتباطاً عضوياً، حيث كانت البارات تقسم في عمّان في فترة أواخر الستينيات بحسب ميولها السياسية، من يسار أردني، إلى يسار فلسطيني، إلى فتح، وبالطبع بارات رجال الحكومة، فلكلٍ باره الذي لا يدخله الآخر وزن دخله كان عليه تقبل الأغلبية هناك . 

كانت البارات تقسم في عمّان في أواخر الستينيات إلى يسار أردني، يسار فلسطيني، فتح، و بارات رجال الحكومة، فلكلٍ باره الذي لا يدخله الآخر و إن دخله كان عليه تقبل الأغلبية هناك

وكان "الرفاق" إذا ما خرجوا من البار والتقوا في الشارع مع خصومهم يشتبكون إما بشجار أو بجدال حول موقف مصر والاتحاد السوفيتي .

يؤكد لي أحدهم أن زيارة البار في الستينيات والسبعينيات كانت للكسب الحزبي، فكانت هناك قاعدة تقول إن القوميين يحتفلون بمنتسبيهم الجدد بالمنسف، والشيوعيين بالبيرة، والإخوان بصحن كنافة. 

نكهة عمان القديمة 

 جاء البار أو الحانة إلى الأردن في عام 1925 حيث تم ترخيصه بدعم من الجيش العربي والذي كانت قيادته في ذلك الوقت بيد قوات الانتداب البريطاني، ورخص أول بار تحت اسم سينما وقهوة " كتياترو " وبحسب الوثائق التاريخية كانت هي الوحيدة العاملة في الأردن عام 1927 وكان من ضمن رخصتها تقديم "المشروبات الروحية".

لاحقاً تم ترخيص بار آخر في حدود بلدية الكرك ، ووقتها حصل جدال على التسمية هل هو بار أم حانة، وبعد جدال طويل ومراسلات تعود إلى العام 1938 تم تسميته بار، وكان التعريف في تلك الفترة "البار هو الذي يقدم المشروب الروحي بالقدح والخمارة هي التي تقدم المشروب بالزجاجة المختومة".

ظلت تراخيص بارات الأردن تصدر تحت مسمى "إدارة السينما واللهو " وفي تلك الفترة صدرت العديد من البيانات التي تناشد الأمير عبدالله بإغلاق هذه البارات وكانت تستفز الأمير بخطاب الهاشميين والسلالة النبوية، وفعلا كان يتم إغلاقها لوقت بسيط ثم يعاد فتحها تحت ضغط قيادة الجيش. 

لكن شهر العسل لم يدم طويلا بين البار والجيش، حيث عاد الجيش في فترةٍ أخرى وأمر بإغلاق البار الوحيد، ثم تراجع عن هذا القرار تحت مسمى "الدسائس" وهي ذات الفترة التي اعتقل خلالها شاعر الأردن"عرار" مصطفى وهبي التل حيث عين معلماً في تشرين الثاني 1926. "وقبل أن يكمل شهرين اعتقل مجدداً وكفت يده عن العمل بتهم: رفع شارة البلشفية، والسكر في حانة عامّة، ونظم قصيدة تضمنت إطالة اللسان على سمو الأمير وفخامة رئيس النظار وحكومته والقانون على ملأ من الناس.

الإخوان الإخوان

كان وجود البار في وسط عمان "القرية الآخذة بالنمو" حدث استثنائي وفي تلك الفترة كان الصراع بين الديوان الأميري "الملكي فيما بعد" والجيش حول البار واضحاً في البيانات وقرارات الجيش .

أيضاً كان تيار الإخوان المسلمين مصراً على إعلان عدائه الواضح لانتشار البار والخمارة في الأردن، حيث نظم الإخوان المسلمين عام 1954 مسيرة باتجاه مبنى رئاسة الحكومة رافعين أربعة مطالب هي: تطهير الجيش من الضباط الإنكليز، إغلاق جميع المراقص والحانات وأماكن الفسق، منع تقديم الخمور في الحفلات الرسمية، ومنع رجال الحكومة من شرب الخمر على ملأ من الناس.

هذا العداء المتبادل استمر حتى العام 1962 حيث حجب الإخوان المسلمين الثقة عن حكومة وصفي التل الثانية، وجاء في كلمة حجب الثقة الموثقة تحت القبة التي أسفت لوجود التوجيه بأيدي أصحاب الحانات،  فقالت:

"كم يحز في نفوسنا نحن أبناء هذه الأمة أن نلمح فريقاً من أصحاب الحانات يخططون لسياسة البلد الأخلاقية ويقومون على التنفيذ في هدم أخلاق الشباب". 

كان ارتياد الحانات آنذاك شكلاً من أشكال مجتمع جديد يتكون في العاصمة، عمان أخذت تكبر أكثر وهناك طبقات جديدة بدأت تتضح أكثر فأكثر، فطبقة العسكر كانت تشتري الويسكي الفاخر "من دكان الجندي"، أما موظف الحكومة فيذهب إلى "بار الأردن"، كذلك اليسار الآخذ بالنمو كانت له باراته، وبعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية كان لها البارات المحسوبة عليها في وسط البلد، أما المهنيين وطبقة المحامين والمهندسين والأطباء فلهم بار "مجمع النقابات المهنية"،  وأخيرا كان الشباب اليافع المتأثر بالثقافة الليبرالية يرتاد كازينو و بار "الفيلا روزا". 

أين تسهر الليلة؟ 

كانت الجرائد اليومية في تلك الفترة تصدر زاوية تحت عنوان "أين تسهر الليلة" ومنها رصد هذا التقرير أسماء أغلب البارات في عمان في تلك الفترة، بار" الأربعين حرامي"، و"الفيلا روزا"، و"الأسد الأحمر"، و"سيزار"، و"نادي المدينة الرياضية"، وغيرها.

بالإضافة إلى التقسيم السياسي هناك التقسيم الطبقي، فكانت تصنف هذه البارات حسب درجاتها فمثلاً كان "الكتكات" و"الأوبرج" من الدرجة الرابعة ، أي الرخيصة والمتاحة لعامة الناس ، أما "الفيلا روزا" و" سيزار" فهي من الدرجة الأولى للطبقات الغنية. وفي مدينة كمعان جنوب الأردن تم إنشاء بارين واحد تحت اسم "معان رست هاوس" ، والآخر "خوري رست هاوس" يمتلكهما أشخاص من نفس المدينة. 

كانت الصحف اليومية في تلك الفترة تنشر زاوية تحت عنوان "أين تسهر الليلة" ومنها رصد هذا التقرير أسماء أغلب البارات في عمّان في تلك الفترة

بيرتنا الأردنية

في الريف البعيد عن مراكز المدن ، عُد الشرب شكلاً من أشكال الرجولة "اللي ما بشرب مو زلمه" هكذا قال لي سبعيني من مدينة الكرك عندما سألته عن سبب شربه للكحول في تلك الفترة.

كان أول قرار للإخوان المسلمين بعد فوزهم في انتخابات النقابات في العام 1986 هو إغلاق بار مجمع النقابات المهنية الموجود في طابقه الأخير والمطل على بركة السباحة المختلطة، والتي حولوها فيما بعد لفترة للرجال وأخرى للنساء

"الراس اللي ما فيه كيف حلال قطعة" والكيف هو كل ما يعدل المزاج من القهوة إلى الكحول مروراً بالدخان.

وقيل في المشروب شعراً يؤكد الفخر به من بينها "صب القدح يا عيد" والتي من أبياتها:

 

نفتح قزايز بنات حصاني … و لز كاسك على كاسي

من يترك الكيف يا "سليمان" …. وانا اشهد انه ولد خاسي.

ويقال إن سليمان ترك الكحول فجاءه صديقه معاتباً بهذه الأبيات

وقد كانت قبائل النوَر تطوف على القرى في أواخر موسم الحصاد وقطاف العنب وتقيم المهرجانات الصاخبة والتي يصاحبها المشروب والرقص، أما في ليالي السمر فكانت تغنى العديد من الأغاني التي تؤكد على الفخر به، مثل:

"ع اليادي اليادي يا أبو العبيدية … يا عرق ما بطلك لو صار عمري مية"

والسُكر زين وما هو بزين … السُكر للكركية"..

و بيرتنا الاردنية ..بيرة زاكية ونديه .. عمرها مذيب حداد بالبيرة الوطنية الوطنية الوطنية …

وكانت من عادات القبائل إهداء المرأة التي أنجبت حديثاً زجاجة نبيذ، وكانت هذه العادة موجودة تحديداً بين قبائل البلقاء وما حولها.

استمر هذا الوضع حتى أحداث أيلول 1971 في عمان، حتى البارات أعلنت موقفها الواضح من الأحداث، ومنها من أغلقت أبوابها  بشكل تام، ومنها من تحولت إلى ثكنة عسكرية في مواجهة عناصر منظمة التحرير في عمان، مثل مقهى وبار السنترال والذي كان محسوباً عليهم فيما قبل.

كانت عادات القبائل تقضي بإهداء المرأة التي أنجبت حديثاً زجاجة نبيذ ، وكانت هذه العادة موجودة بين قبائل البلقاء وما حولها.

بعد أيلول ضعف دور وسط البلد السياسي وكان للأحكام العرفية دور في تعزيز هذا التراجع، وزاد الطين بلّة الفورة النفطية ما بعد 1973 والتي أغرت أغلب المتعلمين والمهنيين في عمان بمغادرتها إلى الخليج ، وهنا خرج من عمان كثير من رواد باراتها، وجاءت طبقات جديدة لتحل محلها وهي طبقات أكثر قرباً من اليمين المحافظ، لذا نجد أن كثيراً من الحانات أقفلت أبوابها أو أخذت تتجه للتحول إلى مطاعم او مقاهي. 

لكن بقي بار مجمع النقابات المهنية صامداً كأحد البارات السياسية، حيث كان واحة سياسية محسوبة على التيار القومي اليساري حتى العام 1986 عندما دخل الإخوان المسلمين مجمع النقابات فاتحين لأول مرة في حياتهم. 

فكان أول قراراتهم هو إغلاق بار مجمع النقابات المهنية الموجود في طابقه الأخير والمطل على بركة السباحة المختلطة والتي تحولت فيما بعد لنظام الفترات أي فترة للرجال وأخرى للنساء. 

بارات معان تم تحطيمها في هبة نيسان 1989، ثم حظر الجيش بيع المشروبات الكحولية في جميع نواديه.

عمان الثملة أخذت تصحو شيئاً فشيئاً، فكان انهيار الدينار وتوقيع اتفاقية وادي عربة وزمن تم تسميته بـ"زمن الصحوة"، والذي بدأ بتفجير سينما سلوة في الزرقاء. 

لكل ما سبق من تاريخ، عندما دخلت البار لأول مرّة كنت أشعر أنني في أولى خطوات الضياع، فأنا من جيل عمّاني محافظ في النهار منحل في الليل. 

*رصيف 22