قراءة نقدية لإشكالية الوحي بين الذّاكرة والزّمن في كتاب السّنة والإصلاح

تندرج مقاربة المفكر عبد العروي لإشكالية الوحي في كتاب "السنة والإصلاح" (ط 2018، المركز الثقافي للكتاب) الذي هو في الأصل عبارة عن مراسلة بينه وبين سيدة أجنبية مسلمة، ضمن ما يمكن تسميته بالمقاربة "الهيرمينوطيقية-التفهمية"؛ ذلك أنه حاول النظر إلى هذه الظاهرة من زاوية مختلفة تماما عن النظرة المادية الماركسية التي تبناها الكثير من المفكرين الآخرين، والتي تفسر الوحي على أنه ظاهرة ثقافية مشروطة بظروفها التاريخية، وأن زمنه قد ولّى ومضى ليحل محلّه العقل. ولم يعالج المؤلف أيضا الوحي من زاوية فقهية تقليدية، التي تفسر الوحي من خلال العلاقة بين الله والنبي دون أن تبحث في الأسس الثاوية وراء هذه الظاهرة. في المقابل، يقدم قراءة بديلة حاولت أن تدرس الوحي من داخل الوحي ذاته، لا من خارجه، منصتا إلى القرآن كصدى أصيل وترجيعة متجددة حمّالة لتأويلات عدة. لهذا، فهو كما يقول الأستاذ محمد مزوز "قرأ الكتاب بالكتاب"[1] ولم يهتد إلى معطيات أخرى خارج الكتاب.

1- مفهوم الوحي كتجربة ذاتية عند العروي

إن تجربة العروي مع الوحي هي في الحقيقة تجربة ذاتية وشخصية. إنها عبارة عن هم ذاتي كان يشغله، ذلك أن كل قول حسبه لا يفهم إلا إذا نُسخ في تجربة ذاتية[2]، لهذا فهو لم يعتمد على القراءات التقليدية المؤولة، التي رسختها الإيديولوجيات الفقهية، أو كما يسميها "السنة"، لكنه حاول العودة إلى أصل الوحي ذاته في نقائه وصفائه وبراءته الأولى، لمحاولة إيجاد ذلك الخيط الناظم وراء ما حدث لحظة انكشاف الوحي لنبي عربي اسمه محمد، "هذا ديدنه وهذا ما أعلن عنه منذ البداية".[3]

ويمكننا أن نجازف ونقول إن تجربة الكاتب مع الوحي شبيهة بتجربة ابن رشد مع المتن الأرسطي، حيث إنه لم يتوسل بالقراءات التي أجراها تلامذة أرسطو وأتباعه ولكنه عاد إلى أرسطو ذاته[4]، وهذا عينه منهج صاحب السنة والإصلاح. ويُؤكد منذ البداية أن الوحي كظاهرة تفرض ذاتها علينا تاريخيا وذاتيا، بل وأصبحت طريقا ثالثا للمعرفة على غرار الحس والعقل، وبالتالي فهو ليس مجرد مسألة "عرضية أو افتراض يشير إلى الحلم أو التكهن أو التوهم على إمكانية حدوثه، بل أمسى واقعا منتظما ومُنظما"[5].

ولعل هذا الأمر هو ما جعله في هذا الكتاب يتعامل مع الوحي بجدية أكبر، من خلال دراسته من الداخل عن طريق وضع نفسه مكان النبي، حينما كان يسمع ما سمع، ويُلقى عليه ما تلقاه، وذلك لمعرفة الحالة النفسية التي كان فيها في تلك اللحظة. وكأننا أمام إعادة إحياء وتذكر لتجربة الوحي وسيكولوجية النبي إبان تلقيه لهذا الوحي، واستحضارها إلى زمننا المعاصر قصد فهمها دون واسطة أو فكرة مسبقة. فالعروي يرفض كل تأويل أو قراءة بالواسطة، بل إنه يدعونا إلى أن نتخلى عن كل الوسائط ونتوجه إلى تجربة الوحي ذاتها بشكل مباشر، ونعيد إحياءها وفهمها وتفهمها وتأويلها تأويلا ذاتيا.

إن تجربة العروي مع الوحي هي في الحقيقة تجربة ذاتية وشخصية

قد يقول قائل كيف لرجل قد وصل إلى هذا المقام من العقلانية، وتكوّن في أعرق البلدان التي لا تؤمن إلا بما هو حسّي ومادي وعلمي، أن ينظر إلى مسألة إيمانية على هذا النحو ووفق هذا المنحى، يجيبنا صاحب السنة والإصلاح عن هذا الأمر بتساؤل استنكاري مفاده: "هل حقق العلم التجريبي أملنا فيه؟ (...) ألم نكن منذ البدء مخطئين؟ ألم نضع أملنا في غير محلّه؟ هل العلم التجريبي مؤهل للكشف عن البدايات والنهايات، وعن الحق المطلق...؟"[6]. هكذا إذن، نفهم لماذا العروي لم يلجأ في مقاربته هذه إلى العلم، إذ حسبه لا يجب علينا محاكمة ظاهرة الوحي وفق منظور علمي محض، ذلك لأن هذا الأخير لا يمكنه أن يصدر حكما قاطعا حول سؤال يتعلق بالبدايات والنهايات كسؤال الوحي. لهذا السبب يصعب على الناقد أن يحاسبه بالاستناد إلى معطيات علمية.

2- الوحي كتجلٍّ لسطوة الذاكرة والزمن

لا يمكننا في الواقع أن نفهم تصور العروي للوحي إلا من خلال مفهومين أساسيين:

أول هذه المفاهيم هو مفهوم الذاكرة[7] أو كما يسميها أحيانا الحافظة (أي التي تحفظ الحدث وتسترده)، فهذه القوة البشرية التي لا نعرف اليوم كيف نشأت أو أين موقعها بالنسبة إلى الحياة والوعي والإدراك؟ أو علاقتها بالنطق والتخيل والتمثل والترميز؟ وهل هي قوى متعددة أم وظائف مختلفة لقوة واحدة؟ هذه الأسئلة لم نستطع حتى اليوم الإجابة عنها، فرغم التطورات التي عرفها علم النفس وعلم الأعصاب La neurologie وما واكبه من تشريح للدماغ وتحديد وظائفه، إلا أنه لم يفلح إلى حد الساعة في فهم طبيعة الذاكرة وفك شفرتها، وتحديد ميكانيزمات اشتغالها وعلاقتها بباقي القوى الإنسانية الأخرى.[8] وحينما يستطيع رجل العلم فك لغز الذاكرة بمعناها العام؛ أي معرفة آليات اشتغالها (من حفظٍ للآثار والقدرة على استردادها في كل لحظة)، ويرصد تلك القوة الكامنة داخلها عندئذ يتم حل المشكلة ولن يبقى هناك لغز أو لبس حول الوحي[9]؛ لأننا آنذاك سنعرف بالضبط طبيعة الذاكرة المميزة التي كان يملكها الأنبياء والرسل، والتي مكنتهم من أن ينقلوا الخطاب الإلهي المبهم إلى اللغة الإنسانية. ورغم أن هذا الأمر يبقى مجرد أمنية وافتراض إلى حد الساعة، لكنها أمنية في المتناول وافتراض وارد حسب المؤلف.

ومفهوم الذاكرة في هذا الكتاب يرتبط بمفهوم آخر، الذي له أيضا علاقة مباشرة بالوحي والحديث هنا عن مفهوم الزمن[10]، فهذا الأخير حسب العروي، مرتبط بالذاكرة ولا ينفصل عنها، ورغم أننا لا نعلم سر هذا التلاقي الموجود بينهما، إلا أنه لا ينبغي أن ننكر كيف أن الذاكرة توجه الزمن وتنزع عنه صفة الإطلاق. إنه بهذا المعنى زمن مُوجِّه وغائي، وهو مختلف تماما عن الزمن الخطي، وأيضا عن الزمن الدائري، فهو أولا وقبل كل شيء زمن بشري يبدو كما لو أنه زمن داخل زمن، إذ إنه تجربة شعورية توجد بالإنسان وفي داخل الإنسان، الشيء الذي يجعله زمن واعٍ بذاته، متجدد ومتجه نحو غاية ما[11]، وهذا الزمن الموجه، الذي له كما قلنا علاقة مباشرة مع الذاكرة، يستطيع بمساعدة الكتابة والنطق أن ينشئ كل أشكال الحكي من قصص وأمثولة وحكاية وملحمة ومأساة وخطاب ورمز وخيال وغيب.[12]

وغاية المؤلف من الوقوف عند علاقة الذاكرة بالزمن في مقاربته لمسألة الوحي هي تحديد البداية والنهاية؛ أي محاولة العثور على جواب لسؤال البدايات والنهايات المتعلق بالوحي، ذلك لأن الزمن قادر على جعل الإنسان يفسر سابقه بلاحقه، ويستعيد ماضيه في حاضره. يقول في هذا الصدد: "[ليس المهم هو] الوعي بالزمن [أو] إيقاظ الذاكرة، المهم هو أن الوقفة [عند هذين المفهومين وفي علاقتهما ببعضهما] بحد ذاتها تخلق نسقا، تحدد سابقا ولاحقا، نهاية وبداية، وهذا النسق الناشئ يتحول إلى مقياس ويرسم وجهة لانسياب الزمن، وبالتالي يعطي الإنسان القدرة على عكسه واسترداده، والقدرة المذكورة هي الذاكرة. [ذلك أن] الذاكرة هي القوة [والقدرة] على عكس الزمن دون الوعي بالعملية".[13] بناءً على هذا القول، نستنتج الخلاصة التالية: إن وقوف العروي على مسألة الذاكرة وعلاقتها بالزمن باعتبارها نقطة البداية، هو وقوف عند لحظة الانكشاف؛ أي تلك اللحظة البدْئية التي كان النبي فيها يتلقى الوحي، وذلك لمعرفة ماذا حصل بالضبط في تلك اللحظة، ولتقفي أثر هذه المسألة يحاول العروي الرجوع خطوة إلى الوراء؛ أي ماذا حدث قبل لحظة الوحي.

إن كل مناحي البحث حول هذه المسألة تقودنا حسبه إلى تجربة إبراهيم، باعتبارها لحظة تجلّي الزمن المرتد، فإبراهيم على حد تعبير الأستاذ محمد المصباحي "يمثل مركز البرهنة، ولحظة ظهور الذاكرة في الوقت الذي توقفت فيه الإنسانية والتفتت إلى ماضيها".[14] وكأن العروي في هذا الكتاب يحاول أن يفهم الوحي معتمدا على نقطة مرجعية أو إطار مرجعي بلغة الفيزياء المعاصرة، منها وبها يفهم ماذا حصل لحظة الكشف، وهذه النقطة هي إبراهيم أو لنقل التجربة الإبراهيمية. فكيف تتحدد هذه الأخيرة حسبه وما علاقتها بالذاكرة وبالوحي؟

3- مفهوم الوحي وعلاقته بالتجربة الإبراهيمية

لقد شكلت تجربة إبراهيم حدثا مفصليا في تاريخ البشرية ككل؛ فإبراهيم ابن الحضارة العاق كما يدعوه العروي في هذا الكتاب[15]، خاض وحده تجربة فريدة لم يخضها أحد قبله من الأنبياء، وفحوى هذه التجربة هو أن إبراهيم سلك الطريق إلى الخالق من خلال تأمل الكون، مقررا مقاطعة أهله وما يعبدون[16] مفضلا الترحال والتيه في الصحراء[17]، مُلغيا بذلك الماضي والحضارة وموقفا الزمن. والقرآن أو الكتب السماوية الأخرى لم تخبرنا كم كلفت إبراهيم هذه التجربة الفريدة من الوقت والجهد، والقوة في طرح السؤال، واستخلاص النتائج؛ إلا أن تجربة كهذه لابد وأن تتطلب من صاحبها يقينا وعزيمة وإرادة قويتين، وذهنا متسعا وقلبا سليما، ولهذا استحق إبراهيم أن يصبح فيما بعد أمة وحده[18]، يقول العروي في هذا الصدد: "كل شيء يبدأ مع إبراهيم، وكل شيء ينتهي إليه، (...) فإبراهيم اسم ومعنى، يشير إلى الحد الفاصل بين المعلوم والمجهول، بين اليأس والأمل، إنه وبكلمة واحدة الذاكرة إذ تنهض وتسطو"[19].

فتجربته تختزل الزمن والمكان في نقطة واحدة، وانطلاقا من هذه النقطة يعاد بناء كل شيء، فهي تجعلنا نرى ما كان وما سيكون[20]، إذ تمثل الحد الفاصل والقطيعة الكبرى مع الماضي، فمعه -كما يقول الأستاذ مزوز- ستعرف الحضارة تحوّلا جذريا في مسارها، لأنه الوحيد من بين قومه الذي "اختار الدخول في تجربة "التيه"، بحثا عن إله (آلهة) لإنقاذ مستقبل البشرية من الضلال (ضلال الخضوع)؛ [ذلك أن] تجربة التيه تعني الهروب من سلطان المعبد والكهنوت إلى فضاء الصحراء اللامتناهي، وإلى أعالي الجبال، من أجل استدرار الوحي من ملكوت المدى عبر الإنصات إلى الصدى القادم من بعيد".[21]

إن تجربة إبراهيم بهذا المعنى، هي رمز "لتجربة استبدال حضارة الجبال في الصحاري بحضارة الأنهار في الشريط الخصيب. استبدال له ما يبرره: الهجرة من جبروت السلطان عبر البحث عن معتقد جديد يضمن الحرية خارج الأسوار."[22] إنه إذن، انتقال من التدين المغلق المحكوم بسياج الأسوار والمعابد إلى تدين مفتوح يقوم على الإنصات إلى أصداء الوحي الذي يمثل رسالة الإله التي يبعثها إلى شخص خياله ليست كخيال الجميع، وذاكرته مميزة، شخص مصطفاً ومنتقاً بشكل جيد يكون قادرا على تبليغ رسالة الإله الواحد ونقلها إلى لغة القوم لكي يفهمونها.

والعروي هنا لا يهتم بقصة إبراهيم كمضمون، ولكن ما يهمه فيها هو خطابها الحامل لتأويلات عدة، حيث إنها تعكس بحق تحوّلا دراميا وتراجيديا طرأ في الحضارة البشرية، لنحاول أن ننصت إليه، وهو يحدثنا عن هذه المسألة قائلا: "لا يهمنا مضمون القصة بقدر ما تهمنا كخطاب، كذكر كإنتاج لقوة الذاكرة (...) [ذلك أن إبراهيم] هو لغز الذاكرة وبزوغها وموقعها من الوعي وآلياتها، أثارها وعلاقتها بالإحساس وبالخيال (...) والقوى النفسية والروحية"[23]. إبراهيم هو الذكرى التي تجمع بين الثنائيات من قبيل العقوق والوفاء، النسيان والحفظ، الحوار والجدال. إنه رجل الفصل بين الكثرة والوحدة، فالتوحيد عنده مسألة استدلال ومصادرة ومبدأ حياة. ولهذا، استحق أن يكون أب الجميع أب آدم ونوح، وموسى وعيسى ومحمد.[24] إنه أب الأنبياء والرسل وأب الديانات التوحيدية كلها.[25] فدعاء إبراهيم هو بمثابة نداء وجواب، وكشف ورؤيا، والرؤيا في الواقع هي "مبادلة، ومحاورة، ومعاهدة، وموالاة"[26] مع المجيب والمرئي، الواحد الأحد، الحاضر والحي. إنها محاورة مع الحق (الله) من خلال قراءة الخلق (الكون)، يقول العروي: "نسجل أول ما نسجل أن إبراهيم هو صاحب المبادرة، هو الذي يُقدم على قطع المسيرة ويوقف الزمن، إذ يشكك، يحاور، يدعو، يجاب، يطمئن ويقر. وعندها تنقلب الأمور، يتحول الجواب إلى وحي وأمر"[27].

ويُسائل العروي المؤرخ النقدي عن إمكانية ظهور إبراهيم آخر غير هذا الذي نعرفه في منطقة غير منطقتنا، والنتيجة التي يصل إليها هي أنه لم يعثر لحد الآن على آثار إبراهيم آخر عند غير الساميين[28]، وصورة هذا الأخير هي التي تغيرت، حيث تم توارثها من جيل إلى جيل عن طريق الذاكرة الجماعية[29]، وهذه الصورة المتوارثة اختلفت باختلاف الورثة، حيث إن إبراهيم لم يخلف وارثا واحدا يكون نسخة له، بل عدة ورثة (أنبياء)، بهم تنوعت التجربة وعبارتها، وهم كذلك مروا بالتجربة نفسها وتوقّفوا عند الحد نفسه.[30]

4- الدعوة المحمدية بوصفها امتدادا للتجربة الإبراهيمية

على غرار إبراهيم وعلى أثره يختزل الوحي المحمدي (الإسلام) الماضي بهدف نفيه، تجاوزه مع الحفاظ عليه كمرحلة، كخطوة تمهيدية، كغواية تقود إلى الهداية؛ ذلك أن الإسلام -كوحي انكشف لفتى عربي سكن مكة وحمل اسما يؤدي معنى الحمد- يعد خاتمة مسيرة الرؤيا الإبراهيمية[31]، وبالتالي فهو يحيي فينا تجربة إبراهيم القابلة للتجديد والتكرار، إذ يجدد خاتم الرسل والأنبياء التجربة الإبراهيمية، في براءتها الأولى ولا يحيد عنها يستخلص منها العبر كاملة[32]، يذكر هذا النبي العربي بنداء إبراهيم ويدعو إلى سيرته، يقلده فيقف مثله على العتبة، عتبة الإمبراطورية وعتبة التاريخ[33]، الشيء الذي جعله وريثا شرعيا لتجربة جده إبراهيم.

ويذهب صاحب السنة والإصلاح أبعد من ذلك، حينما يعتبر أن صفة الأمية التي كان يوصف بها النبي محمد، هي في الواقع تعود إلى جده إبراهيم، يقول في هذا الصدد: "محمد أمي، ومفروض عليه أن يكون أميا، لأن إبراهيم كان، بل اختار أن يكون، أميا"[34]، ويعرض أيضا مسألة أخرى تلتقي فيها الدعوة المحمدية بالتجربة الإبراهيمية، وتتعلق بمسألة الكتابة؛ فكلاهما لم يكتبا الوحي، بل اكتفيا بالإصغاء إلى الصدى الإلهي، لنحاول أن ننصت، وهو يحدثنا عن هذه المسألة قائلا: "ليس القرآن كتابا كالكتب [السماوية الأخرى] (...) [فهو] لا يكون ذِكرا إلا حينما يُقرأ ويُتلى، عندما يعاد لفظه وسمعه. وهذا هو الموقف البديهي والضروري لمن يُقلد إبراهيم، [الذي] ينادي ليجاب، يدعو ليُدعى. لا يكتب، لا يملك الوقت ولا الإذن ليكتب، حتى لا يغفل شيئا مما يُلقى إليه[35]، (...) وما التشبه بإبراهيم، وإحياء تجربة إبراهيم في صورتها الأولى، تلك التي انتهى إليها عهد وبدأ عهد، إلا العودة إلى ذلك الموقف المتميز، موقف الإنسان ما بعد الوعي وما قبل الكتابة"[36].

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف وصلت التجربة الإبراهيمية إلى شبه الجزيرة العربية مكان تواجد النبي محمد وقومه؟ للإجابة عن هذا الإشكال يأخذ الكاتب في البحث في السياق التوحيدي الإبراهيمي للعرب، فيؤكد أن العرب (شعب النبي محمد) ليسوا شعبا بدويا، رحالا معزولا في الصحراء، إذ يصحّ أن يقال ذلك عن عرب الوسط. أما عرب الشرق، المندمجون في العالم الفارسي، وعرب الجنوب، المتصلين مع العالم الإفريقي، فأقل بداوة. بينما يظل "عرب الشمال الغربي أكثر تحضراً، وفيهم ظهرت الرسالة. هؤلاء ارتبطوا منذ قرون بعلاقات وثيقة ومنتظمة بمؤسسي الحضارة القديمة في الشام ومصر، وهؤلاء هم شعب النبي، الشعب التاريخي العريق".[37] "الشعب الذي لا أحد يعرف من أين جاؤوا؟ ما موطنهم الأصلي؟ ما سرّ إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المُبِينَة المتينة كالمنسوخة عن مكتوب، حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حِرَفهم؟ أخلاقهم؟".[38]

كل هذا لا نعرفه، ولكننَّا نعرف فقط أنهم عاشوا طوال ألف سنة يتذكرون جدهم إبراهيم وتجربته، ثم رافقوا الإمبراطورية الرومانية طوال قرون، في عهديْها الوثني والمسيحي، تارة داخل الحدود، وتارة على الهامش، وقد شاركهم النبي هذه التجربةَ التاريخية ثلثي حياته قبل أن، يتبرأ منهم ويعتزلهم كما فعل قبله جده إبراهيم.[39]

وهنا يتساءل الكاتب مجددا عن السبب الذي مَنَعَ عرب الشمال الغربي، المتصلين مع مصر ومع بلاد الشام التي "عُرّبت، بشريّاً وثقافيّاً، ثلاثة قرون قبل الإسلام"[40] من اعتناق اليهودية والنصرانية؟ إذ لو كانوا بالفعل أجانبَ دخلاء لَسَايَرُوا الجموع. فما هو السر الكامن وراء امتناعهم عن الاندماج؟ سؤال يطرحه العروي فيجيب: "عرب الشمال الغربي، الملحَقون بالمجتمع الهلنستي[41] منذ أزمان، لا بدّ وأن يكونوا قد حملوا فكرةً خاصةً بهم، ميزة تفصلهم عن غيرهم وتمنعهم من الانصهار في أولئك الغير. وهذه الميزة التي تجعل منهم أمة رافضة لكل اندماجٍ، لاصقة بهم منذ قرون".[42]

هكذا يكون الإنسان المتوسطي حسب العروي مرتبط بِزَمنٍ سابق عليه، هو زمن إبراهيم الذي بدأ وانتهى معه كل شيء، فتجربته هي ما يجسد "ذاكرة الإنسان المتوسطي"، الذي ظل وفيا لها، ولم يشاطر أهل العقائد الأخرى -اليهودية منها والنصرانية- توحيديتهم، التي خدشت في اعتقاده الذاكرة الإبراهيمية وحادت عنها إلى التجسيم والتجسيد. هذا هو الافتراض الذي يقترحه الكاتب، ويؤكد بطريقة غير مباشرة وجاهته وصدقه حين يسجّل تفوُّق دعوة النبي محمد "هذا الداعي الجديد، الذي ليس دَعيّاً ولا مدَّعيّاً"[43] والذي تميزت رسالته بارتفاعها عن نصاب التجسيد والوثنية المنسابتين من اليهودية والنصرانية. فهو لم يدعي أن الله يكلمه (كما فعل موسى)، ولم يدع بنوَّته من الله (كما يقول أهل التثليث)، وإنما يقول بتواضع كبير: "أنا اليتيم، أن الأمّيّ، في ظلام الليل وعزلة الخلاء، سمعتُ ما سمعت ورأيتُ ما رأيت، وها أنا أوافيكم بما رَسَخ في الوجدان بلغةٍ يفهمهما قومي".[44]

كلام متواضع، بشريّ، عاديّ، لكنه صادق. ولذلك السبب يفهمه قومُه، إذ هل كان بالإمكان أن يُتصوَّر أن يكون النبي عرض على قومه، وهم أصحاب ذكر وحفظ (ذاكرة)، نسباً، مادياً وروحياً، غير الذي توارثوهُ جيلاً عن جيل منذ أقدم العصور؟ لو أقدم على ذلك، أمَا كان ذلك أقوى حجةً عليه؟ لو جاء بغير المعهود، لو قرَّر نبذ المألوف المرسخ في ذاكرة قومه، أما كان لهم أن يطردوه ويستهزئون منه، يقول العروي: "ألم تكن العادات التي دعا إليها منسوبة إلى إبراهيم: الختان، الاحتفال بواقعة الذبح، تقديس البيت، التبرك بماء البئر... هذه أشياء سابقة على عهد النبي. فلو أقدم على تجاهُلها لكذَّبَ دعواه قبل أن ينشرها".[45]

5- التجربة الإبراهيمية وإسلام المدينة: خطاب الذاكرة في مقابل خطاب التاريخ

إذن فالتجربة الإبراهيمية العالقة في الذاكرة الجماعية لقوم النبي، هي التي منعتهم حسب الكاتب من اعتناق اليهودية أو النصرانية، وهي التي جعلتهم يستجيبون لدعوة النبي التي نطقت بمفردات إبراهيمية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، والذي تطرق إليه العروي في هذا الكتاب: ما الذي جعل هذه الدعوة تصدّ من طرف القرشيين وأشراف مكة والأقربين من النبي؟

والجواب الذي يقترحه العروي هو أن: أشرافُ مكة والمقربين من النبي لم يدركوا جيدا ما تقدمه لهم الرسالة وفكرة التوحيد، الشيء الذي جعلهم لا يقتنعون بها. يقول العروي في هذا الصدد: "يرى أشراف قومه [قوم النبي] أنه وحداني المزاج، شاد السلوك، موهوب، لا شك في ذلك، لكنه مرهف الإحساس، قاسي العبارة، محدود الخبرة. يتيم، فيعوض عن أبيه المفقود بجد روحي بعيد. أمي لا يكاد يقرأ أو يكتب، فيدعو للاقتداء به سادة محنكين. هذا ما يقوله في مجالسهم أسياد مكة. هم راضون على حالهم، معتزون بإنجازاتهم، غير ميالين إلى محاسبة الذات؛ فلا يفهمون ما يدعوهم إليه من التأمل في عجائب الخلق (...) هذا الاندهاش أمام أسرار الكون، كل ذلك يبدو لهم لغو الصبيان العجائز"[46]

كيف له أن يقنع هؤلاء العقلاء أن للكون خالقا، وهو وحيد في مكة "يلاحظ ما لا يلاحظ غيره. يؤثر في وجدانه تأثيراً يقلقه، يذهله، يؤرقه ما لا يلفت أنظار ذويه ولا يحرّك منهم ساكناً، وهم العقلاء الفضلاء أصحاب همّة ومروءة، ماذا يعني الأمر إن لم يَعْن أن الفتى يجتاز تجربة فريدة، غير عادية بين أبناء جلدته، (...) [إذ] يكتشف النبي بغتة أنه مخالف لقومه يشعر شعورا قويا مُبرحا بحوادث لا ينتبه إليها أقرباؤه، يهتم لحالات تبدو لكبراء عشيرته تافهة أو حقيرة."[47] يتساءل في حيرة من أمره لماذا اختير هو بالذات من دون سائر أشراف قومه وكبرائهم منزلةً اجتماعية.

يقول العروي شارحا سيكولوجية النبي إبان تلقيه للوحي والحيرة التي أصابته حينها: "هذا الذي انكشف له بقوة تأثير كادت تفقده توازنه، كم كان يود أن يكتمه عمّن حوله، لولا أنه تلقى الأمر أن يصدع به! (...) يتساءل النبي خائفا مرتابا: لماذا أنا بالذات، اليتيم المسكين المهجور المنتسب إلى أمة بلا كتاب؟ قبل أن يدعوَ غيره إلى التصديق بما شاهد، عليه أن يقنع نفسه بأنه أهل لما خُصّ به. الريبة لا تفارقه، لا فيما ألقي إليه، تفضلا وإكراما، بل فيما يتعلق بشخصه، باستعداده وقابليته. هل هو بحقّ الوعاء الصالح لحفظ السر؟ يقول ويردد لخصومه: شكوا فيّ أنا، [ولكن] لا تشكوا فيما أقول، إذ أنا مجرد واسطة، حامل رسالة، ناقل خبر، صدى لأمر، مرآة لحضور".[48]

على غرار إبراهيم وعلى أثره يختزل الوحي المحمدي الماضي بهدف نفيه

وكأنه كان يدرك جيّداً أن لا تناسُبَ بين مقاله ومقامه، بين جسامة ما يدعو إليه ودوره المتواضع في المجتمع.[49] لكنه -ورغم الصدّ والخذلان- جاهد وثابر و"أحْيَى نداء جدّه إبراهيم"[50]، الشيء الذي جعل تجربته حسب العروي صادقة مادام فيها إحياء وتجديد وتصديق لنداء إبراهيم[51]، وهذا الانتساب هو أقوى حجة على صدق الرؤيا، والدليل الوحيد الذي يطمئن النبي، ويقنعه قبل أن يقنع الآخرين.

وقد كان عليه أن يواجه هذا الصدّ وهذا الخذلان، بالانفصال عن المجتمع المكي المُضطهد. والعروي يتفهم النبي هنا إذ لم يكن أمامه حل آخر غير ذاك؟ "فأن يعتنق اليهودية؟ الأمر مستحيل نظرياً وعملياً، أن يعتنق النصرانية؟ الأمر مستحيل عقلاً وأخلاقاً، أن يُعْرِض عن أهل مكة؟ الأمر مستحيل إذْ ما كان لأهل مكة أن يُعْرِضوا عنه وهم مقتنعون أنه يمثل خطراً قاتلاً على تجارتهم"[52]. لكن الهجرة ستبدِّل بعضاً ممّا كان في دعوته الإبراهيمية في مكة. ستدفعه إلى "الانغماس في دوّامة التاريخ [الذي سقط ضحية له]"[53]، ومن ثمة سيبدأ الحلم بإقامة الدولة.

إذ إنه في مكة "كان وحيداً مهجوراً، مستضعفاً مضطهداً، فوجد الله وسَعِدَ به. [لكن] في المدينة كان مكرَّماً مُبَجَّلاً، محاطاً بالأنصار والأتباع، فاكتشف الإنسان وشَقِيَ به. آراؤُهُ تُنَاقش، أحكامُهُ تُعَارض، بل الوحيُ ذاتُه كان أحياناً موضوع تساؤل. لذلك بالضبط، جاء التأكيد تلو التأكيد على أن طاعةَ الرسول طاعةُ الله وحكمَ الرسول حكمُ الله (...) لولا التنطُّع لما جاء التأكيد".[54] وهذا التحول والانقلاب الذي شهدته الدعوة المحمدية كان ضروريا، لكي تخرج دعوة التوحيد من ضائقتها الطويلة في مكة، والعروي يتفهم النبي هنا ويؤكد أنه كان ضحية لمكر التاريخ، وأنه سقط ضحية للسياسة التي انضوى تحت لوائها وسلطانها، ويتساءل في استنكار ألم يحصل ذلك في اليهودية قبْلاً؟ يجيب "من يتقمص رداء موسى يسير بالضرورة على خُطاه".[55]

وهكذا نكون حسب ما ذهب إليه الكاتب أمام دعوتين متباينتين أو لنقل أمام إسلاميين؛ إسلام أول داخلي الذي يحيي التجربة الإبراهيمية ويسير على خطاها، وهو إسلام الوحي، وإسلام ثانٍ خارجي/تاريخي، آفاقي، نسميه إسلام الهجرة، تأخر فيه إبراهيم الخليل تاركا الواجهة لموسى الكليم، وفيه وقع النبي في التاريخ أو لنقل في السياسة وفيما يواكبها من عنف ومكر وخديعة. فالهجرة كانت منعطفا حاسما في تاريخ الإسلام، إذ إنها تبين حسب العروي كيف أن الدعوة وحدها لا تجدي؛ فالخطاب وحده لا يشرح صدر أحد، ذلك أن الإنسان عنيد، لا يسمع ولا يرى، يستخدم حرية الاختيار التي منحت له فيما يضره لا فيما ينفعه. والمدينة مكان مختلف، فهي في حاجة إلى قائد حاكم أكثر من مصلح مهذِّب.

ولذلك ما إن حلَّ بها النبي حتى دُفع دفعاً إلى تقمُّص دور موسى، واستحضار تجربته، فقد كان الرسول في هذه المرحلة كما يقول الأستاذ مزوز ينعت موسى بقوله "أخي موسى"، في إشارة إلى الاسترشاد بالتجربة الموسوية مع سلطة الفرعون، والتي يناظرها صراع الرسول مع سلطة قريش، فهذه المرحلة لم تعد تتحمل الدعوة بصيغة "وجادلهم بالتي هي أحسن"، بل هي مرحلة الفعل السياسي وبناء أسس الأمة والدولة، مع ما يعنيه ذلك من اصطدامات وخصومات ونزاعات، وفق ما تقتضيه موازين القوى والمصالح من أفعال وردود أفعال. هكذا وبنوع من التدريج تأخر إبراهيم الخليل، تاركا الواجهة لموسى الكليم. وهنا وقع النبي في حبائل التاريخ، وفيما يواكبه من عنف ومكر. ورغم أنه كان مازال يسمع ما يُلقى إليه من وحي، لكنه في الوقت نفسه أصبح يصغي لأصوات أخرى، أصوات من حوله من رجال وأصحاب رأي وتجربة.[56]

وسيتعمق مسار الإسلام التاريخي أكثر فأكثر بعد موت النبي وانقطاع الوحي، ومع حلول الخلفاء محله في مركز القيادة ستنشب صراعات على الحكم وسيتضخم الإسلام السياسي، ليبلغ ذروته مع الدولة الأموية. وفي هذه المرحلة، ستنشأ معضلة السنة والتقليد التي سيبدأ العروي معالجتها وفحصها ونقدها في الفصل السابع من هذا الكتاب، وذلك من خلال تتبع المسار التاريخي الذي تكونت إثره السنة، وتحديد الجهات والشخصيات التي جمعتها وهدفهم من تكوينها، ويرصد كيف أنها رسخت إيديولوجية التقليد وجعلت منه مبدأها الأساس وقطب الرحى الذي تدور حوله كل الأحكام الفقهية.

 

[1]- مزوز، محمد. (2018). فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري (ط1). الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع. ص. 151

[2]- يقول العروي في هذا الصدد: "ما من قول يصدر عنا إلا ويعبر عن هم ذاتي، أو بعبارة أدق كل قول يقال لا يفهم، إلا إذا نُسخ في تجربة ذاتية هذا ما علمتني [إياه] تجربة طويلة من المطالعة المتمعنة والمحاورة المطردة"، العروي، عبد الله. (2018). الأعمال الكاملة النقدية: السنة والإصلاح ودين الفطرة (ط1). الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب. ص. 11. ونشير هنا أن هذا العمل نُشر منفردا في طبعة أولى سنة 2008 ونشره المركز الثقافي العربي، ببيروت.

[3]- مزوز، محمد، فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري، ص. 152

[4]- مع التحفظ على هذه المسألة، ذلك أن ابن رشد حسبما يذكر لنا المؤرخون، لم يكن يعرف اليونانية، ومن المؤكد أنه قد اضطلع على أرسطو في الترجمات العربية التي كانت موجودة في عصره، والتي كانت لا تخلو من تأويل، مادامت كل ترجمة هي عبارة عن تأويل في نهاية المطاف.

[5]- العروي، عبد الله. السنة والإصلاح، ص. 24

[6]- نفسه، ص. 34

[7]- إن القارئ المتبصر لأعمال الأستاذ العروي يلاحظ بجلاء كيف أولى عناية خاصة لمفهوم الذاكرة حيث قدمه في أكثر من عمل إذ نجده -على حد علمنا- في روايته "الآفة" و"أوراق" وها نحن نصادفه أيضا في مؤلف السنة والإصلاح، ويتخذ عنده نفس المعنى، وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على مدى أهمية هذا المفهوم عند هذا المفكر التاريخاني.

[8]- السنة والإصلاح، ص. 43

[9]- نفسه، ص ص. 44-45

[10]- "إن كل فلسفة حسب العروي هي تفكير في الزمن"، انظر: المصباحي، محمد. (2015). "فكرة الزمن في كتاب السنة والإصلاح". في أنطوان سيف (محرر)، هكذا تكلم عبد الله العروي. (ط1، ص ص. 167-188). بيروت: منتدى المعارف للطباعة والنشر. ص. 167

[11]- نفسه، انظر على التوالي ص. 176 وص. 187. وأيضا ص. 41 من السنة والإصلاح.

[12]- السنة الإصلاح، ص ص. 41-44

[13]- نفسه، ص ص. 47-48

[14]- المصباحي، محمد، "فكرة الزمن في كتاب السنة والإصلاح"، ص. 182

[15]- يقصد المؤلف حضارة الأنهار (وادي النيل، بلاد الرافدين)، وهي حضارة كانت تتميز بتعدد الآلهة، ولعل تشكك إبراهيم في هذه الآلهة، وهجرانه لأهله وما يعبدون، واختيار التيه في الصحراء من أجل البحث عن الخالق الواحد، الدائم، هو ما جعل العروي يصفه بهذا الوصف المجازي.

[16]- قال تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون" (سورة الزخرف الآية 26)

[17]- هناك علاقة وطيدة بين الذاكرة (الحافظة) والترحال، حيث أن الرّحل كانوا يتميزون بذاكرة قوية تحفظ الأشعار والقصص والأمثولات، وكل ما توارثوه عن أسلافهم، وفي هذه العلاقة يكمن سر إبراهيم حسب العروي، أنظر السنة والإصلاح، ص. 53

[18]- قال تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل، الآية 120)

[19]- السنة والإصلاح، (الهامش)، ص ص. 51-52

[20]- المصباحي، محمد، "فكرة الزمن في كتاب السنة والإصلاح"، ص. 182

[21]- مزوز، محمد، فلسفة الدين بين التجربة الباطنية والتأمل النظري، ص. 153

[22]- نفسه، ص. 153

[23]- السنة والإصلاح، ص. 52-56

[24]- نفسه، ص. 55

[25]- يقول العروي: "لا دين إلا ما هو إبراهيمي المنحى"، السنة والإصلاح، ص. 63

[26]- نفسه، ص. 60

[27]- نفسه، ص. 52

[28]- نفسه، ص. 56. ويؤكد العروي أنه إذا ما استطاعت الحفريات يوما الكشف عن وجود إبراهيم آخر (أب أمم آخر) عند غير الساميين، فإن ذلك الاكتشاف سيقوي الدلالة الرمزية، الشكلية للسيرة الإبراهيمية أكثر مما يشهد على صحتها الحرفية.

[29]- هناك نوع من التشابه إن لم نجازف ونقول إن هناك تقاربا وتضايفا بين تصور العروي لمفهوم الذاكرة، باعتبارها ملكة تلتقي مع الزمن وتوجهه، والموقف الهيرمنوطيقي-الفينومينولوجي الذي يتبناه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur (1913-2005) في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (2000)، إذ يعود بنا هذا الأخير إلى التراث اليوناني القديم، وكيف أن لغز الذاكرة داخل هذه الثقافة ارتبط بالماضي، ولكننا لا نستطيع أن نعيه إلا على ضوء الحاضر، فما يميز لغز الذاكرة عند اليونان هو كونها تمثل ذلك الأثر المحفوظ والمنقوش الذي يبقى، فيصبح الماضي معه هو حاضر، ذلك أن الذكرى حسبه تعود كصورة وليس كإشارة عن ذاتها، بل عن آخر غائب، كأثر لأمر ليس حاضرا أمامنا الآن، وهي في اعتقادنا نفس الصورة التي يضعها العروي للتجربة الإبراهيمية؛ فهي إرث ينتمي إلى الماضي، لكنها بقيت محفوظة في الذاكرة الجماعية، وانكشفت لنا في الحاضر عن طريق هذه الذاكرة، التي يشترك فيها الإنسان المتوسطي، مع حضارة الأنهار، وهذا ما يجعلها ذاكرة جماعية بامتياز، وريكور يؤكد أن كل مجموعة بشرية تشترك في ذكريات تتداخل في ما بينها كما تتداخل القصص التي نرويها عن أنفسنا، فهي قد تخصنا وقد تخص آخرين وقد تخص أشخاص بعيدين عنا، لذلك فمصير الذاكرة هي ألا تبقى خاصة بشخص واحد فقط، وفي هذه النقطة بالضبط يلتقي في اعتقادنا الموقفان. انظر ص ص. 15-16، من كتاب: ريكور، ب. (2009). الذاكرة، التاريخ، النسيان (جورج زيناتي، مترجم) بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.

[30]- السنة والإصلاح، ص ص. 66-68

[31]- نفسه، ص. 88

[32]- نفسه، ص. 71

[33]- نفسه، ص. 111

[34]- نفسه، ص. 74

[35]- يقول تعالى: "ولا تعجل بالقرآن قبل أن يقضي إليك وحيه" (سورة طه، الآية 114)

[36]- السنة والإصلاح، ص ص. 73-74

[37]- نفسه، ص. 96

[38]- نفسه، ص. 91

[39]- نفسه، ص. 94

[40]- نفسه، ص. 90

[41]- ملاحظة بخصوص هذه الكلمة يستعمل العروي كلمة الهلستيني بدل الهلنستي للدلالة على العصر الهلنستي Époque hellénistique، وهو في اعتقادنا مجرد تصحيف للكلمة.

[42]- السنة والإصلاح، ص. 98. يقول الأستاذ المصباحي معلقا عن هذه المسألة: "[إننا] نفهم من هذا أن العروي لا يقوم في كتابه هذا [يقصد السنة والاصلاح] بتحسين أو تعديل التاريخانية الأولى استجابة لمستجدات التاريخ الحديث، بل يذهب أبعد من ذلك ليقدم لنا بديلا لها هو أشبه ما يكون “بما بعد تاريخانية” (بوست تاريخانية) أو [يمكن القول] أنها “تاريخانية بديلة” (ألتير تاريخانية)، قائمة على زمن وتاريخ رمزي حكائي بدل التاريخ الفعلي، والزمن المعاش. فعندما كان يتكلم مثلا عن النبي إبراهيم، لم يكن يهمه إبراهيم التاريخي، وإنما إبراهيم “الراموز”، الذي يفسر رفض العرب اعتناق اليهودية والمسيحية، أملا منهم في مجيء نبي يؤكد “الوعد الإبراهيمي” بتأسيس دولة تملأ الدنيا والزمن شرقا وغربا."، انظر: المصباحي، محمد. (2018، 18، نوفمبر). صراع الحدث والسُنّة في كتاب "السُنّة والإصلاح" لعبد الله العروي، مجلة مؤمنون بلا حدود، استرجعت في تاريخ: 20، يناير، 2019، من الموقع أدناه:

- https://www.mominoun.com/articles/صراع-الحدث-والسنة-في-كتاب-السنة-والإص….

[43]- السنة والإصلاح، ص. 100

[44]- نفسه، ص. 101

[45]- نفسه، ص. 101. -بتصرف طفيف-

[46]- نفسه، ص. 114

[47]- نفسه، ص ص. 105-108.

[48]- نفسه، ص ص. 108-109

[49]- نفسه، ص. 113

[50]- نفسه، ص. 117

[51]- "قيل لإبراهيم: اهجر قومك. وقيل للنبي العربي: اقرأ، اذكر، اتل، اصدع، ادع...كل ذلك بلفظ جامع اشتق منه اسم القرآن"، نفسه، ص. 110

[52]- نفسه، ص. 120

[53]- نفسه، ص. 121

[54]- نفسه، ص. 123

[55]- نفسه، ص. 123

[56]- مزوز، محمد، المرجع السابق، ص ص. 173-174

أضف تعليقك