"التلوث البصري" سبب آخر لامراض القلب والاكتئاب في الاردن

عمّان - امال العطاونة- مضمون جديد

يشعر بشار احمد بانقباض كلما دخل الى الحي التجاري في الزرقاء، والذي يعتبره خبراء نموذجا للفوضى التي باتت سمة في العديد من المدن الاردنية، ومصدر تهديد فعلي لسلامة المواطنين وصحتهم النفسية والبدنية.

ويتشكل الحي من مجموعة شوارع تتداخل بلا انتظام وترتص على جوانبها مبان مشوهة تعج واجهاتها بالاف اللوحات واللافتات الاعلانية التي تسد الافق.

وفي اعلى المباني التي اسودت واجهات معظمها، يختلط المشهد بما لا يحصى من خزانات المياه واعمدة شبكات التقاط البث التلفزيوني المهجورة، والصحون اللاقطة التي تتدلى اسلاكها متلوية في كل اتجاه كما النباتات المتسلقة.

وفي الاسفل، يغدو المشهد اكثر عدوانية حيث يتزاحم المشاة مع واجهات متاجر زحفت على ارصفة متهالكة، ولوحات اعلانية زرعت اعمدتها في طريقهم.

اما الجزر التي تتوسط الشوارع المصابة بجلطات مرورية، ففد غدت ساحة لاكوام القمامة التي يراكمها اصحاب المتاجر بانتظار ان تلتقطها سيارات البلدية، وايضا وجدت اللوحات سبيلها الى ما تبقى من موطئ قدم في هذه الجزر.

وحتى الفضاء فوق الشوارع لم يسلم من عشرات اللافتات الاعلانية القماشية التي تعترضه بالتوازي مع الاسلاك المتصلة بغابة لا متناهية من اعمدة الكهرباء والهاتف.

يقول بشار، وهو طالب جامعي ان "البعض قد ينظر الى هذا المشهد بوصفه مؤشرا لحضارة وتقدم، ولكنه في حقيقته فوضى بشعة تبعث الضيق في النفس وتسبب التوتر، وربما الاكتئاب".

ويضيف متهكما "يبدو انني تطورت لدي عقدة نفسية او شئ من هذا القبيل، وبحيث ان مجرد فكرة النزول الى السوق باتت تجعلني اشعر بانقباض في صدري".

ويقول بشار الذي يدرس في جامعة اليرموك في اربد ان الحي التجاري هناك يشهد فوضى مماثلة ولكنها ليست بالتعقيد الذي عليه الحال في الزرقاء.

وبرأيه، فان هذه الفوضى اصبحت ملمحا في معظم المدن الاردنية، ولم تعد تقتصر على الاحياء التجارية، بل انها تمتد الى المناطق السكنية، وبخاصة المكتظة التي نمت واتسعت دون ضابط تنظيمي.

مستويات خطرة

والفوضى التي يتحدث عنها بشار هي تجسيد لظاهرة التلوث البصري التي يحذر خبراء من انها وصلت الى مستويات خطرة في الاردن.

والتلوث البصري اصطلاح يطلق على مجموعة العوامل غير الجذابة التي هي من صنع الانسان، سواء كانت متعلقة بالرؤية او المشهد الطبيعي او اي شئ لا يشعر الانسان بارتياح لدى النظر اليه.
وهو مسألة جمالية تشير الى الاثار التي يخلفها اضعاف قدرة الشخص على التمتع بمشهد او منطر طبيعي.

ويستخدم هذا المصطلح بشكل واسع ليشمل الرؤية والقيود على قدرة مشاهدة الاجسام البعيدة والفوضى البصرية.

ويعدد الدكتور هاني ابو قديس مدير مركز الملكة رانيا العبدالله لعلوم وتكنولوجيا البيئة في جامعة العلوم والتكنولوجيا، بعضا من اهم مسببات واشكال التلوث البصري المنتشرة في المدن الاردنية.

ويقول ابو قديس ان من هذه المسببات "سوء التخطيط العمراني لبعض الأبنية، وسوء تخطيط المساحات والفراغات التي تحيط بالمدينة".

ويضيف ان من اشكال هذا التلوث "انتشار المباني المهدمة أو الحفريات وسط المناطق السكنية والتجارية، واختلاف دهان واجهات المباني وعدم تناسقها، واللافتات ولوحات الإعلانات بألوانها غير المنسجمة".

وان كانت هذه الاشكال من التلوث البصري تتجلى نهارا، الا انها تتوارى ليلا ليحل مكانها فوضى مصابيح الانارة التي تتباين في احجامها والوانها وشدة سطوعها، راسمة لوحة مشتتة ومشوهة للمشهد العام.

وكما يرى ابو قديس فان "هناك إدراكا لحجم المشكله من قبل الجهات الرسمية، إلا أنه للأسف لم تتخذ إجراءات كافية لمعالجتها والحد من أثارها السلبية".

وعلى ذلك، فهو يؤكد ان "هناك حاجة لإطار تشريعي للتعامل مع هذه الظاهرة التي بدأت تنتشر بشكل واسع في العقد الأخير".

تفعيل القانون

ونظريا، هناك اطار تشريعي يتعاطى مع هذا النوع من التلوث ويتمثل في مواد في قانون تنظيم المدن والقرى والابنية، ونظام ترخيص وسائل الدعاية والاعلان ضمن حدود مناطق البلدية.
ولكن هذه الاحكام التشريعية غير مفعلة على نطاق واسع، وهو ما تتحمل مسؤوليته السلطات المحلية ممثلة بالبلديات.

فمثلا، ينص القانون على الزام اصحاب العقارات على طلائها وتنظيف واجهاتها وازالة اي بناء مؤقت واي عقار او ساحة او حديقة تسبب تشويها للجوار والمنظر العام للمدينة، او تكون ذات "منظر منفر وبشع".

كما يلزمهم بازالة "اي محرك او سيارة مهملة او اية انقاض من العقار , او خردة ، او حطب او براكيات في العرصات المكشوفة على جوانب الطرق"

وفي حال رفض المخالفين الانصياع، فان السلطات المحلية مخولة بازالة المخالفة وتحميل نفقات ذلك لاصحاب العقارات مع تغريمهم.

اما ما يتعلق باللوحات واللافتات الاعلانية، فقد اطلق المشرع يد البلديات في شؤون تنظيمها، واكتفى بوضع اطار عام يحكم هذه المسالة ودون ان يخوض في التفاصيل.

وابرز ما ينص عليه هذا الاطار هو حظر اي وسيلة دعاية واعلان تتضمن "ما يمس الشعور القومي او الديني او يتنافى مع الآداب العامة والنظام العام".

وعلى ما يبدو، فان البلديات التي يعاني معظمها من ضائقة مالية وديون متراكمة تنظر الى الرسوم التي يدفعها اصحاب اللوحات الاعلانية باعتبارها مصدر دخل، وهي بالتالي تغض الطرف عن تلويثها للبيئة ومخالفتها للقانون.

وليس هناك من استثناء واضح لهذه الحالة سوى امانة عمان الكبرى التي بدأت قبل بضع سنوات حملة لازالة اللوحات واللافتات الاعلانية عن واجهات المتاجر والمباني.

ويتضح التساهل الذي تبديه البلديات في اشد صوره الملوثة للبيئة البصرية في مواسم الانتخابات سواء النيابية او البلدية او غيرها، والتي يقوم المرشحون خلالها بتعليق لافتاتهم القماشية والصاق صورهم على كل ما يمكن ان تصله ايديهم.

وان كانت بعض البلديات تفرض على المرشحين مبالغ تامين لضمان ازالتهم لهذه الاعلانات بعد انقضاء مدة الحملات الانتخابية، الا ان هذا النوع من التامين هو صوري في الواقع، ولا يلبث المرشحون ان يستردوه دونما ازالة اعلاناتهم.

مخاطر صحية
واجمالا، فان النظرة الى ظاهرة التلوث البيئي لا تكاد تتعدى مسالة الترف في اذهان الكثيرين وبخاصة المسؤولين، والذين ربما لا يدركون او لا يعيرون الاثر الخطير لها على صحة الانسان، نفسيا وبدنيا ايضا.

وهذا الاثر "محسوم علميا"، كما يؤكد مستشار الطب النفسي الدكتور وليد سرحان الذي يدرج التلوث البصري في اطار قضية اشمل هي "التلوث النفسي" الذي تسهم فيه انواع اخرى من الملوثات البيئية.

ومن ذلك "الضوضاء الناتجة عن المصانع والطائرات والقطارات وحركة السير، والاضواء الكثيرة التي ترافق المدينة الحديثة، وحياة البيت من شاشات وكمبيوتر وتلفزيون وهواتف، وثم الازدحام في حركة المرور والاماكن العامة"،

ويؤكد الدكتور سرحان ان هذه "كلها امور تعمل على رفع الضغط النفسي على الانسان وهذا يعني زيادة توتر الجهاز العصبي وتأثير ذلك السلبي على أجهزة الجسم المختلفة، وبالتأكيد على وظائفه النفسية".

ويوضح اطباء الالية التي يؤثر التلوث البصري من خلالها على الانسان، قائلين ان البيئة البصرية تتكون في الدماغ من خلال دخول الصور والمشاهد المؤثرة إيجابياً أو سلبياً عبر العينين إلى الدماغ، حيث تتكدس وتخزن.

وعندما تصل إلى الدماغ، تؤدي الصور البشعة والمؤذية إلى تغييرات كيمائية وبالتالي إلى آثار جسيمة نفسية وجسدية، بخاصة أنها تصبح مخزنة في ذاكرته الواعية واللاواعية.

وفي اشارة الى التلوث الضوئي الذي هو احد اركان التلوث البصري، يقول الدكتور سرحان ان "هناك احوالا خاصة كالصرع والصداع النصفي قد تحدث النوبة فيها بعد التعرض للضوء مباشرة وبشكل فوري".

ولكنه يقول ان التلوث الضوئي يكون غالبا "عملية متكرره..تؤدي الى ضغط نفسي وتوتر مستمر يرفع ضغط الدم و(يستبب) بامراض القلب والجهاز الهضمي والارق والإرهاق والإضطرابات الجنسية والقلق والإكتئاب النفسي".

ويضيف ان هذه الاثار الصحية تترتب "اما بشكل مباشر أو غير مباشر حيث أن العلاقة بين الإضطرابات النفسية والجسدية علاقة ثابتة علمياً وهي علاقة وطيدة".

ويعتبر الدكتور سرحان ان تخفيف اثار هذا التلوث على الصحة مسألة ذات بعدين، يتعلق الاول بسلوكيات الانسان نفسه، والذي يرى ان من المفيد له "ان يخرج من المدينة الى المناطق المزروعة والخضراء والبحر حتى يرتاح ولو مره في الاسبوع، واذا توفرت الاماكن الخضراء فالأفضل ان يزورها يومياً".

اما البعد الثاني فيتعلق بدور المؤسسات الرسمية التي يدعوها الى مراعاة "البعد البيئي النفسي في تخطيط المدن والاماكن السكنية, وإعطاء فرصة للتخفيف من كل مصادر الازعاج والتلوث البيئي الفيزيائي والنفسي".

أضف تعليقك