إشكالية الموازي والحق في التعليم العالي

 انتهج التعليم العالي الأردني منذ عقدين تقريبا حلا للأزمة المالية للجامعات بأن فرض ما يسمى بالتعليم الموازي، وهو ببساطة عبارة عن ان يدفع الطالب رسوما مضاعفة أو أكثر عن الرسوم التي تدفع للمقبولين بالطريقة التنافسية مقابل حصوله على مقعد جامعي بمعدل أقل، فهل حل ذلك مشكلة الجامعة والأهم هل ينسجم هذا النهج مع الحق في التعليم ؟

من  منظور حقوق الإنسان، فإن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي صادق عليه الأردن قد نص في المادة 13 منه " جعل التعليم العالي متاحا للجميع على قدم المساواة، تبعا للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم" فماذا يعني ذلك ؟

يشير هذا النص في كلمة "الإتاحة" بمعنى ان لا تضع الدولة أية عراقيل أمام وصول الناس من التعليم سواء أكانت تلك العراقيل قانونية أو اجتماعية أو اقتصادية، وبنفس الوقت توفير مؤسسات تعليمية كي يتيح فرصة التعليم، أما مفهوم المساواة للجميع تبعا للكفاءة، فمها شرطان متلازمان، بمعنى أن النص لم يقل أنه ينبغي تعليم كل شخص تعليما عاليا كما في المرحلة الإبتدائية، وإلا لكان قد فرض على الدولة الزامية التعليم العالي، وهذا ليس المقصود بالطبع، بل اشترط معيار الكفاءة والتي يحق للدول ان تحدد معيارا له كإمتحان الثانوية العامة الذي يطبق في الأردن مثلا و/ أو امتحان القبول الجامعي أو غيره شريطة ان تستطيع هذه الآلية تحديد وفرز مستويات الكفاءة بين المترشحين، والأمر الآخر قد اشترط بشكل متلازم المساواة، وهي تعني باختصار عدم وجود اي استثناء لأي شخص في تطبيق معيار الكفاءة الموضوع.

وهنا تكمن الإشكالية في الأردن، إن برنامج الموازي كما شرحناها هو مخالف بشكل صريح لالتزام الأردن في العهد المذكور بل هو مخالفة دستورية أيضا لأنه يخالف مبدأ المساواة الوارد في المادة 6 في الدستور الأردني، وأيضا إنه يشكل أحد العراقيل التي تحول دون الإتاحة الواردة في العهد، أي إن فرض رسوم أعلى مقابل مقعد أقل يقلص فرص حصول الطلبة على المقاعد التنافسية بسبب محدودية القدرة الاستيعابية للجامعة.

 ولكن يا ترى ما الذي شجع الدولة على سلوك هذا النهج المخالف ؟ إن نهج اللامساواة كما في الموازي هو نهج مطبق بشكل قانوني ولسنوات عبر ما يسمى بالاستثناءات في أسس القبول الجامعي، والتي أعطت استثناءات على معيار الكفاءة ألا وهو معدل الثانونية العامة، فقد منحت مقاعد مخصصة لعدة فئات كأبناء العاملين في الجيش والذين يمتازون بحصولهم على مقعد جامعي بمعدل أقل بتغطية مالية من قبل الجيش، اي أن الطلاب لا يدفعون رسوما خلافا للطالب المقبول بجدارته بالتنافس والذي يحتاج الى معدل أعلى من المقبول على المكرمة الملكية للجيش ويدفع بالطبع رسوما ليست بالقليلة، ويضاف الى ذلك مقاعد مخصصة لأبناء الشهداء وأبناء العاملين بالجامعات و مقاعد لأبناء العشائر والجيش والأقل حظا وغيرهم.

كل هذا عبارة عن تشويه تام لمفهوم المساواة الوارد في العهد وفي الدستور، حيث جعل الإستثناء هو الأساس، فإذا ما جمعت كل الأعداد المقبولة على الاستثناءات بالإضافة الى الموازي فإن نسبتهم قد تصل او تتجاوز 70% من مجمل المقبولين !!! فهل هذا استثناء ؟ بل هو الأصل على أرض الواقع.

ويطرح البعض مبررات لهذه الاستثناءات وان لها مسوغاتها، منها أن مكرمة الجيش لمن خدم الوطن، وأقول إن كل المواطنين الذين يطبقون القانون ويحترمونه ويحصلون قوت يومهم بشرف كلهم من يخدم الوطن بدءا من عامل الوطن الى رئيس الوزراء دون استثناء، ثم إن كان هنالك شخص يستحق مكافأة لخدمة الوطن فينبغي ان يكون للشخص نفسه لا لأبنائه او لورثته !

ومبرر آخر يقدم ألا وهو سوء حال المناطق الأقل حظا والذي يخصص لهم مقاعد جامعية، سأقول حسنا هذه معضلة، ولكن لا يعالج الخطأ بالخطأ، أي ينبغي العمل بكل جدية لتحسين ظروف تلك المناطق من الناحية الخدمية والتعليمية، واشير هنا الى من يبررون إيجاد حل لهذه الفئة بمنحهم استثناءات لأنهم أقل حظا، أقول أنهم بقبولهم لكسر قاعدة المساواة هي التي سمحت بكسرها هذا بالقبول على نظام الموازي لمن هم أفضل حظا أي الأغنياء منهم. فما منح باليد اليمنى للأقل حظا أخذ منهم بأن أعطي باليد اليسرى لمن هم أفضل حظا.

لقد كان لتلك السياسات أثر بالغ وبشكل سلبي على جودة التعليم، فالتعليم العالي في الأردن في حالة تراجع، ويكفي ان نشير الى ازدياد ظاهرة العنف الجامعي وارتباطه بالتعصب الإقليمي والقبلي والمرتبط بشكل أو بآخر بتلك الاستثناءات التي شوهت "هوية" الطالب الجامعي، فتحولت الجامعة من أن تكون "جامعة" لهوية وطنية ومنفتحة على العالم إلى منغلقة اقليميا ومناطقيا بسبب الحالة التي ينتشي بها الطالب متفاخرا "بهويته" الإقليمية التي منحته مقعدا جامعيا، بل إن ما نشهده من تمزق اجتماعي ومناطقي في المجتمع الأردني قد لا يكون ببعيد عما ذكرنا.

بقي ان نشير الى ما ورد في المادة 13 في العهد من ان التعليم العالي ينبغي " الأخذ تدريجيا بمجانية التعليم" وقد قصد بها ان الأساس هو أن التعليم العالي ينبغي أن يكون مجانا، ولكن إن كانت الدولة لديها تحديات اقتصادية والتي تنطبق على الأردن تحول دون ان تقوم الدولة بتغطية كلفة التعليم العالي، فإنه يتاح لها إتخاذ سبل تدريجية للوصول إلى تمكين الناس من التعليم، ولكن ما هي معايير التدريج هذه ؟ أبرزها هو توجيه اقصى ما تسمح به موارد الدولة المتاحة لهذا الحق، وهذا يتطلب أن تعطي الموازنة العامة للدولة أولوية لهذا الحق، فهل نحن كذلك ونحن نرى الدولة ترفع يدها كل يوم عن الجامعات تحت ادعاء " استقلالية"، ان استقلالية الجامعات يبدو لم يفهم من قبل الحكومة الا برفع يدها عنها من الناحية المالية فقط، والبديل يكون بأن توكل الجامعات سياسة فرض وزيادة الرسوم على الطلبة ؟ ثانيا، هو أن يكون هنالك تقدم محرز، أي أن يكون هنالك في كل عام زيادة في موازنة الإنفاق على الجامعات وبذات الوقت تخفيض الرسوم على الطلبة، ثالثا، هو أن تطبق على قاعدة المساواة، وتعني باختصار إلغاء أي استثناء في الرسوم الجامعية مما يستوجب الغاء الموازي مثلا أو التباينات غير المنطقية في الرسوم.

 

ما الحل إذن؟

يمكن باختصار بعد الشرح الذي قدمناه تقديم الحلول التالية:

  1. إعادة النظر بأسس القبول الجامعي بحيث يكون هنالك معيار كفاءة موحد ينطبق على جميع المترشحين للقبول الجامعي ودونما اي استثناء كان، وقد يكون هذا المعيار هو امتحان التوجيهي و/ أو امتحان القبول الجامعي.المهم ينطبق على الجميع.
  2. إلغاء النظام الموازي، وتوحيد الرسوم للطلبة بين الجامعات الحكومية على الأقل في ذات التخصص.
  3. البحث عن بدائل أخرى لدخل الجامعات من ذلك تعزيز المداخيل المالية لها التي يمكن أن تجنى من تطبيق سياسة "المسؤولية الاجتماعية"، أي تحويل بعض الضرائب التي ينبغي ان يدفعها القطاع الخاص الى منح للطلبة الأقل حظا او اموالا تدفع للجامعات. الى جانب استثمار حاجة القطاع الخاص الى الأبحاث العلمية من خلال الاستفادة من خبرات أساتذة الجامعات والطلبة في عمل البحوث مقابل دعم مالي من القطاع الخاص.
  4. زيادة الإنفاق على الجامعات الحكومية من خلال زيادة المخصصات لها في الموازنة العامة للدولة.
  5. ايلاء المناطق الأقل حظا أولوية في تحسين الخدمات في تلك المناطق لاسيما تلك المتعلقة بالتعليم، من حيث بناء المدارس الملائمة وتوفير مكافآت اضافية للمعلمين في تلك المناطق، والى حينما تتحسن ظروفهم يمكن قبول خريجي الطلبة في تلك المناطق – كإجراء مؤقت  ولكنه تحفيزي -  بأن يقبل الطالب بمعدل اقل شريطة أن يدرس ساعات تعليمية إضافية بما يعادل فصل أو فصلين دراسيين حتى يستطيع أن يتساوى معرفيا مع أقرانه من الطلبة، وأن يكون تعليم هذه الفصول الإضافية مجانية من باب التضامن والتمكين لهم.



 

أضف تعليقك