متى تصبح الواجبات المدرسية "مكرهة تربوية" !

الرابط المختصر

* تهدر وقتهم توتّرهم وتعيق تعلمهم الواجبات المدرسية “حمل” يثقل كاهل الطفل والنظام التعليمي *مناهج تعليمية بعيدة عن الفكر النقدي للطلبة *المنهاج المطبق يساعد على “الغش” *على من المسؤولية! الأهل أم المعلمين؟

 

 

البداية..

عندما عاد زيد الخطيب (10 سنوات) من المدرسة، كان عليه أن ينجز الواجبات المدرسية التالية: نقل خمس أسئلة لمادة الاجتماعيات وحلّها على الدفتر، حفظ أنشودة مع تحضير جميع معاني درس اللغة العربية الجديد، حفظ إملاء ست كلمات باللغة الإنجليزية، نقل وحل 7 مسائل رياضيات على الدفتر، مع التحضير لامتحان قصير في المادة، وأخيراً حلّ 3 أسئلة لمادة العلوم.

 

لم يكن هذا هو اليوم العالمي للواجبات المدرسية، بل كان النموذج المعتاد للمهام التي يكلف بإنجازها يومياً، لذلك فإن زيد الذي يخرج إلى المدرسة في السابعة صباحا ويعود منها في الثالثة بعد الظهر، لا يتمكن وبعد سبع ساعات يقضيها في الصف وباص المدرسة، لا يتمكن حتى من التقاط أنفاسه، ويجد أن عليه أن يبدأ بعد تناول الغداء مباشرة في إنجاز مهام تتطلب منه العمل ما لا يقل عن ثلاث ساعات يوميا.

 

زيد ليس استثناء، إنه نموذج لما يعانيه التلاميذ في مدارس هذا العصر، مدارس لا تكتفي بـ”اعتقال” التلميذ معظم ساعات النهار على مقعده في الصف، وتضبط تحركاته بصرامة هي أقرب إلى العسكرية، إنها أيضا تلاحقه إلى البيت، وتحرمه من استثمار ساعات ما بعد المدرسة في ممارسة ما يحب.

 

حنين علي مثلا (13 سنة) تمتلك الكثير من الهوايات، ولكن كمّ ما تكلف به من واجبات بشكل يومي يحرمها من ذلك.

 

تقول حنين إنها تحب القراءة، والرسم وتفصيل الملابس للدمى، لكنها لا تستطيع ممارسة هواياتها هذه لأن واجباتها المدرسية لا تترك لها أي وقت خلال النهار.

 

إنها محرومة حتى من متعة صغيرة، كأن تخرج عندما يكون الجو جميلا لتتمشى حول منزلها وتتفرج كما تقول على الطبيعة.

 

قد لا يبدو للوهلة الأولى أن قضاء طفل ثلاث ساعات في أداء واجباته بعد المدرسة مسألة ذات بال، ولكن ليس هذا ما يراه متخصصون في التربية، يحذرون من عواقب هذا النمط من التعاطي مع الأطفال.

 

ذلك أن ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن هذه الساعات الثلاث تأتي بعد ساعات طويلة قضاها الطفل محتجزاً على مقعد في غرفته الصفيه، خاضعا لأنظمة صارمة تضبط تحركاته وكلامه، وأن طفلا كهذا سيحتاج بعد هذه الساعات إلى أن ينطلق ويلعب ويمارس الأشياء التي يحبها، وحرمانه من حريته هذه لساعات إضافية بعد المدرسة يعرضه لعواقب وخيمة.

 

والطريف هو ما خرجت به دراسات غربية أكّدت أن الآثار السلبية لأداء الكثير من الواجبات المدرسية هي نفسها الآثار المترتبة على مشاهدة التلفاز لساعات طويلة، من ناحية أنها تعيق التفاعل الاجتماعي، كما أنها تحد من النشاط الحركي ما يسبب السمنة.

 

عربيا، ليس هناك الكثير من الأبحاث عن الانعكاسات السلبية للعبء الزائد للواجبات المدرسية على الصحة النفسية للأطفال، القضية التي تحظى باهتمام التربويين في الخارج.

 

في الولايات المتحدة، حيث ينجز تلاميذ المدارس الكثير من الواجبات المنزلية، نقلت مجلة Journal of Personality and Social Psychology عن الجمعية النفسية الأميركية أن التلاميذ العاديين في المدارس الأميركية يسجلون درجة من القلق النفسي أعلى من نسبة القلق التي سجلها المرضى النفسيين من الأطفال في الخمسينات، والعبء الزائد من الواجبات المدرسية هو أحد العوامل وراء ذلك.

 

لماذا يكلّف الأطفال بكل هذه الواجبات

بحسب الخبير التربوي حسني عايش، فإن الواجبات المدرسية بالصيغة التي تعطى بها للتلاميذ تحوّلت إلى “مكرهة تربوية” وهي انعكاس لخلل أصاب النظام التعليمي في الأردن، قامت المدرسة إثره بعملية تبادل أدورا بينها وبين البيت، فالواجبات المدرسية هي “جزء من تحول المدرسة إلى ملعب وتحول البيت إلى مدرسة”.

 

وهي بتكليفهم كل هذه الواجبات تلقي بهذه المسؤولية على الأسرة، الأمر الذي يخلق إرباكاً داخل هذه الأسر، وما يعمّق هذا الإرباك أن الآباء باتوا مع المناهج الجديدة مطالبين بتدريس أطفالهم مضامين لم يدرسوها هم في زمانهم، ما دفع الكثير من الأسر إلى الاستعانة بالمعلمين الخصوصيين حتى للمراحل الأساسية.

بحسب عايش فإن هناك نظريات تربوية تؤكد على أنه لا حاجة للواجبات المدرسية إن كانت المدرسة تقدم تعليما جيدا، ولكن المدارس باتت هذه الأيام “تتهرب” كما يقول من مسؤوليتها في تعليم التلاميذ، وجعلت من الواجبات المدرسية بديلاً عن هذا التعليم، ما حوّل الجزء الأكبر من ساعات ما بعد المدرسة إلى عبء ثقيل على الأطفال وأهاليهم، بل وقلب حياة الكثير من الأسر رأساً على عقب.

 

المعلمون يدافعون عن أنفسهم

لا ينكر معلمون ما تعانيه الأسر جرّاء الواجبات المدرسية. إنهم أيضا آباء وأمهات، ولديهم أطفال في المدارس، ويعانون كغيرهم في تدريس أطفالهم. إن الواجبات بحسبهم لا تعكس”استسهالاً” يمارسه المعلمون قدر ما يعكس ما يقولون هم أيضا إنه “خلل” في النظام التعليمي، ولكن من زاوية أخرى غير التي ذكرها عايش.

 

إيمان عبد الرحمن هي معلمة في مدرسة أساسية. في المدرسة هي معلمة تعطي كغيرها الكثير من الواجبات، وتعود إلى البيت أمّا تكافح كل يوم مع حلّ أبنائها لواجباتهم.

 

إنها ترى أن الأهل محقون في طلبهم أن يعود ابنهم من المدرس بواجبات خفيفة، وقد استوعب بشكل جيد ما هو مطلوب منه، فهذا ما تتمناه هي أيضا من مدارس أبنائها، ولكنها كمعلمة لا تستطيع أن تفعل ذلك  في ظل الظروف الحالية في المدارس

 

 تقول إيمان “عندما يكون لدى المعلم عدة صفوف وفي كل صف أكثر من 40 طالبا، كيف يمكنه أن يركز على الطلاب بشكل فردي، وأن يجعلهم يخرجون من الحصة وقد فهموا تماماً ما هو مطلوب منهم، هذا صعب جدا”.

 

وليس العدد الكبير للتلاميذ هو ما يواجه المعلم فقط، هناك أيضا كما تقول المناهج الثقيلة التي لا يتناسب حجمها مع الزمن المتاح لها

 

ذلك أن “المناهج لا تساعد المعلم، فهي كبيرة، والزمن المتاح لإنجازها غير كاف، وهذا يضطر المعلم إلى أن يسرع كي ينهي ما هو مطلوب منه، وهذا يؤثر على فهم التلاميذ”.

من هنا فإنها ترى أنه في ظل الظروف الحالية فإن من واجب الأهل أن يساهموا في تدريس أبنائهم. فالمسؤولية في النهاية أكبر من طاقة المعلم.

 

المشكلة ليست في الواجبات بل في “كمّها” و”كيفها”

نظريا، قد يبدو المعلمون محقون في دعوتهم إلى إشراك الأهل في تحمل مسؤولية تعليم  أبنائهم، بسبب عدم توفر الظروف الملائمة للمعلم كي يقوم بمفرده في ذلك.

 

 ولكن الأمر كما يقول عايش لا يتعلق بنقاش مبدأ الواجبات من عدمها، لأن التربويين كما ذُكر سابقا قد انقسموا حول ذلك، ولكن المسألة تتعلق أولا بكمّ هذه الواجبات .

 

 ”هناك من يرى أن المدرسة التي تقدم لطلابها تعليما جيدا لن تكون بحاجة لتكليفهم بواجبات، وهناك من يرى أن التلاميذ يجب أن يكلفوا بواجبات، ولكن في كل الأحوال لا يجب أن تزيد الواجبات عن نصف ساعة للمرحلة الابتدائية، وعن ساعة للثانوي.” 

 

كلام عايش تؤكده دراسة أجراها الأميركيان  David P. Bakerو Gerald K. LeTendre صدرت العام 2005، تحت عنوان “اختلافات وطنية وتشابهات عالمية”، وفيها أن الدول التي يحقق طلابها أعلى الدرجات في الامتحانات التحصيلية مثل الدانمارك واليابان وجمهورية التشيك هي دول يعطي المعلمون فيها الطلاب واجبات قليلة جداً، في حين أن الدول التي يحقق طلابها أسوأ درجات في امتحاناتهم التحصيلية، مثل إيران واليونان وتايلاند، هي دول يتحمل التلاميذ فيها الكثير من الواجبات المدرسية    

 

المسألة الأخرى في رأي عايش هي أن معظم ما يكلف به التلاميذ لا يساعد على عملية التعلم التي يدعي المعلمون أنها الهدف من الواجبات، فما يكلفون تلاميذهم بأدائه خال من المعنى ولا يعود عليهم بأي فائدة.

 

“هناك واجبات لا يستفيد منها الطفل، لأنها لا تكون متصلة بحاجاته، ولا تساعده على التفكير أو حلّ الألغاز، هذا النوع من الواجبات عبء مضاعف على الطفل وعلى الأسرة”.

 

تؤكد حنين ما يقوله عايش، فمعظم ما تكلفها معلماتها به هو مجرد عملية نسخ آلي،  ”أنا أحب الواجبات التي تعتمد على البحث وتساعدني على التفكير، ولكن نادرا ما تكلفنا المعلمات بهذا النوع من الواجبات، جميع ما نؤديه هو عمليات نقل لأسئلة على الدفاتر وحلها ونسخ الأجوبة من الكتاب، وأحيانا نقوم بتكرار حل نفس الأسئلة عندما تتكرر في مواضع مختلفة”.

 

الكثير من الواجبات المدرسية يعيق التفاعل الاجتماعي

لا يكمن ضرر الواجبات المدرسية غير المدروسة في أنها تعيق الطفل عن ممارسة هواياته وتنمية مهاراته، إنها تعيق حتى التفاعل الاجتماعي، فالطفل الذي يمضي معظم وقته في حل الواجبات لا يملك الوقت للخروج واللعب بشكل كاف مع رفاقه، والمفارقة ، أن ذلك يعيق تفاعله الاجتماعي حتى مع عائلته التي يكون وسطها.

 

ويصبح الأمر مأساويّاً مع أبوين مضطرين إلى العمل ساعات طويلة، وهي حالة أم أحمد، أم لأربعة أطفال، ثلاثة منهم في المرحلة الابتدائية.

 

ظروف عملها تضطرها إلى أن تعود  إلى المنزل في السادسة والنصف مساء، ولا يكون أمامها سوى ساعتين ونصف قبل حلول موعد نوم أبنائها، وبدلاً من قضاء وقت نوعي مع أطفالها، فإن هذه الساعات تنقضي في حلّ الواجبات المدرسية.

 

 ”عندما أكون في الباص عائدة إلى المنزل، أتمنى لو تتاح لي فرصة الجلوس معهم والحديث معهم براحة. أتمنى لو أستطيع اللعب معهم، أو آخذهم في مشوار، ولكن هذا غير ممكن، فعندما أنتهي من مساعدتهم في حل الواجبات يكون قد حان موعد نومهم”.

 

إن الأسوأ كما تقول أم أحمد هو أن هذه الساعات القليلة تمضي في جوّ من التوتر لها ولأطفالها.

 

“شعوري بأن الوقت ضيق يجعلني أضغط عليهم كي ينجزوا ما عليهم قبل النوم، فيصلون أحياناً كثيرة إلى مرحلة لا يعودون فيها قادرين على الاستيعاب أو تحمل المزيد، وهذا أمر يضغط على نفسيتي، فيوترني ويوترهم أيضاً”.

 

إنها أيضا تعلّم الغش

عندما يقول المعلمون إن كثافة المناهج الدراسية وكثرة أعداد الطلبة تجبرهم على تكليف الطلاب بواجبات هدفها تعويض ما لم يستطيعوا تقديمه هم في حصصهم، يغفلون عن حقيقة أن هذين السببين سيقفان أيضا عائقاً أمام قدرتهم على متابعة أداء التلاميذ للواجبات التي كُلفوا بأدائها، لتفقد بذلك هذه الواجبات معناها حتى من وجهة نظر المعلمين.

 

فمعلم يدرّس ست شعب وفي كل شعبة 45 طالباً، لن يتمكن من متابعة واجب قوامه صفحتان أو ثلاثة، وأقصى ما يفعله المعلمون هو أن يقوموا في اليوم التالي بالمرور بين الأدراج والنظر من بعيد إلى الدفاتر، ووضع علامة الصح بالحبر الأحمر دون أن يكونوا قد قرؤوا كلمة مما كتبه التلاميذ.

 

إن التلاميذ يدركون هذا، وكثير منهم ولكي يخففوا عن أنفسهم، يتحايلون على معلميهم، إنهم يفعلون ذلك كما يقول أنس (12 سنة) بطريقتين:

 

فكثير من التلاميذ يقومون بنقل الواجب عن دفاتر زملائهم قبل دخول المعلم إلى الصف بدقائق.

 

الطريقة الثانية عندما يقوم التلاميذ، وبسبب معرفتهم أن المعلم لن يدقق في ما يكتبون، يقومون بحلّ الواجب ولكن ناقصاً:

 

 فإذا كان الواجب مثلا نسخ درس، فإن التلميذ يقوم بتجاوز أسطر أو حتى فقرات كاملة أثناء الكتابة. 

 

إن الخطورة هنا لا تكمن فقط في أن المدرسة تقوم هنا بتعليم الأطفال “الغش”، ولكن في أنها أيضا تشوّش وعيهم، عندما يتعلمون في سن مبكرة أن الجزاء “ليس” من جنس العمل، وأن من يحلّ واجبه كاملاً وبأمانه، ومن يحلّه ناقصاً، ومن  ينقله حرفياً عن زميله قبل دقائق من حضور المعلم، فإن جميعهم سوف يتساوون في نظره.

 

أما الذين لا يقومون بتأدية واجباتهم فإنهم يتعرضون كما يقول أنس إلى عقاب شديد حيث يقوم المعلم بضربهم بقسوة بالعصي.

 

وهي مفارقة حقيقية، فالوحيد الذي ينال العقاب هو الذي لا يشارك في المهزلة.

 

العيب ليس في الواجبات، بل بالطريقة التي تُعطى بها

 أخيرا فإن العيب ليس في مبدأ الواجبات المدرسية، فكما ذكر سابقاً، إن الجدل حول ضرورة وجودها أو عدمه ما زال محتدما بين التربويين، وكثيرون يرون أنها تساعد التلاميذ على تثبيت المفاهيم التي أخذوها في المدرسة، ولكن ما هو محسوم، هو أنها بصيغتها المتداولة في المدارس في الأردن، تتسبب بأضرار كبيرة، فهي تعيق عملية التعلم بدلا من أن تحفزها.

 

خطأ كبير أن يُحرم الأطفال من الساعات القليلة المتاحة لهم في كل يوم كي يلعبوا ويوسعوا آفاقهم ويتفاعلوا اجتماعيا بشكل صحي ومرتاح مع أسرهم ورفاقهم.

 

ولكن الخطأ يصبح فادحاً عندما تسرق منهم هذه الساعات كي ينجزوا مهام تتسم بالعبثية واللامعنى. إن المجتمع بذلك لا يحرمهم فقط من طفولتهم، إنه أيضاً يهدرها مجاناً.