سجناء في كراسيهم المتحركة
سجناء في كراسيهم المتحركة..معاناة المعاقين حركياً في المواصلات العامة
تحقيق دلال سلامة لوثائقيات حقوق الإنسان
*أزمة النقل العام عند المعاقين تثنيهم عن الحياة الطبيعية *غياب الإحصاءات تقوض من فرص التقدم * مبادرات قطاع خاص خجولة في تفعيل استخدام المعاق للنقل العام * العالم الافتراضي ملجأ العديد من المعاقين
البداية..
جلس وائل خضر (47 عاماً) ساعة كاملة على مقعده المتحرك في الشارع انتظاراً لسيارة تاكسي، قبل أن تتوقف أخيراً واحدة أمامه كي تنزل راكباً، وعندما همّ بالركوب، أشار السائق إلى الكرسي المتحرك الذي يجلس عليه، وسأله إن كان سيحمله معه إلى السيارة. رد وائل بأنه لا يستطيع التنقل بدونه، هنا حرّك السائق السيارة وانطلق دون حتى اعتذار.
لم يكن لديه خيار سوى الانتظار نصف ساعة إضافية، قبل أن يتوقف تاكسي آخر يوافق سائقه على نقله مع مقعده المتحرك، فلم يكن بإمكانه ركوب الباصات التي تمر من أمامه، لأنه سيكون بحاجة إلى اثنين يحملانه إلى الباص، واثنين آخرين ينزلانه منه، وبالتأكيد سيحتاج إلى من يتولى طي الكرسي وحمله إلى الباص وإنزاله منه.
المشهد السابق يمثل واقعاً يوميا لقطاع عريض من المعاقين حركياً، أولئك الذين لا تسمح لهم طبيعة إعاقتهم بقيادة سيارة، أو من الذين لا تمكنهم ظروفهم المادية من شراء سيارة حتى مع الإعفاء الجمركي الذي وفرته الدولة، وهم يعانون من عدم توفر خدمة نقل عام مهيأة لاستخدامهم.
يقول معاقون إنهم “يسمعون” بوجود حافلات مصممة لتحميل أمثالهم من مستخدمي المقاعد المتحركة في العاصمة عمان، وتابع الكثير منهم تغطيات إعلامية لاحتفال مسؤولين بإطلاق دفعات جديدة منها، ولكن كثيرين منهم يعترفون بأنهم لم يسبق لهم طوال السنوات الماضية أن شاهدوا أي واحدة.
وهذا ليس مستغرباً، فهذه الحافلات التي بدأ تشغيل الدفعة الأولى منها العام 2003، لا يزيد عددها، بحسب الناطق الإعلامي لهيئة تنظيم قطاع النقل العام إخلاص يوسف، على 27 حافلة، وهي تعمل فقط على خطوط معينة منها جامعتا العلوم والتكنولوجيا والجامعة الهاشمية والمدينة الطبية ومستشفى البشير.
وهو أمر جعل هذه الفئة من المواطنين تحت رحمة أصحاب وسائل النقل الوحيدة المتاحة لهم وهي سيارات التاكسي والسرفيس، الذين لا يبدي الأغلبية الساحقة من سائقيها، كما يقول معاقون، تعاوناً معهم.
سوسن العبادي (30 عاماً)، من سكان ماركا الشمالية، قال لها سائق تاكسي طلبت منه أن يقلّها “أين أضع كرسيك… على رأسي؟”، وأكمل قبل أن ينطلق بسيارته إنه يريد أن “يلّحق” رزقه، مختصراً بهذه العبارة السبب الرئيسي الذي يجعل سائقي سيارات الأجرة يحجمون عن التوقف للمعاقين، ذلك أن توقفه لهم يعني أن عليه أن ينزل من سيارته، ويطوي الكرسي ويضعه في الصندوق الخلفي، ثم يعاود الكرّة عند نزول الراكب. وهي “معاناة” لا يرى سائق التاكسي أنه مضطر إليها، مع توفر ركاب “أصحاء” يركبون السيارة وينزلون منها خلال ثوان.
من هنا، لا يعرف المعاقون ما ينتظرهم عند خروجهم من المنزل، وعند ارتباطهم بمواعيد فإنهم يضطرون إلى الخروج قبلها بساعات، ويقول الكابتن أحمد الشوابكة من نادي المستقبل للمعاقين، إن الشباب والفتيات الملتحقون بتدريبات النادي الرياضية، يخرجون من منازلهم في الحادية عشرة صباحا كي يتمكنوا من اللحاق بموعد التدريب في الثالثة بعد الظهر، ومع ذلك فإن كثيرين يتأخرون عن تدريباتهم.
حتى في الحالات التي يوافق فيها سائقو الأجرة على نقلهم فإنهم في أحيان كثيرة يستغلونهم مادياً، وتقول سوسن إنه من المعتاد أن تدفع دينارا لمسافة لا تتجاوز على العداد نصف دينار، أما وائل الذي يعمل في كشك لبيع البطاقات الخلوية، فلكي يستطيع الالتزام بمواعيد عمله، فإنه يضطر إلى دفع خمسين ديناراً من راتبه البالغ مئة وخمسين ديناراً، لسيارة خصوصية يقوم صاحبها بتوصيله من وإلى عمله.
عندما تحدد وسائل النقل اتجاه حياتك
إن الحديث عن معاناة المعاقين حركيا، وبالتحديد مستخدمي المقاعد المتحركة مع وسائل النقل العام، غير المهيأة لاستخدامهم، قد يبدو للوهلة الأولى حديثاً عن “جزء” من المعاناة العامة لهم، ولكن الحقيقة هي أنه “جزء” يمكنه أن يربك كامل حياة الواحد منهم، بل ويحدد مسارها، ذلك أن عدم قدرتهم على التنقل بسهولة يحرمهم من فرصتهم في أن يطوّروا أنفسهم وأن يحسّنوا بذلك من ظروفهم الحياتية، ما يجعلهم أكثر فأكثر أسيرين لإعاقاتهم.
فداء فيّوض (28 عاماً)، من سكان الرصيفة، حُرمت من فرصة الالتحاق بدورة كمبيوتر في مركز للتدريب المهني في الزرقاء، لأنها لا تستطيع الوصول إليه. تقول فداء “قدّمت الطلب معتمدة على أن أختي التي تملك سيارة ستقوم بإيصالي من وإلى المركز، ولكن عندما جاءتني الموافقة بعد سنة، كانت أختي قد تزوجت وخرجت من المنزل”.
ومثل فداء، حُرم وائل من عدة فرص للتدريب، بسبب عدم قدرته على التنقل، كان من بينها دورة للتدرب على أعمال ديكورات الجبس. ودون مهارات لم يستطع الحصول إلا على وظيفة كبائع لبطاقات الهواتف، وهو براتبه الهزيل الذي تستنزف مواصلاته ثلثه، ما زال في سنه هذه عاجزاً عن تأمين تكاليف زواجه الذي يخطط له مع زميلة له في نادي المستقبل للمعاقين.
بلال سمّور (24 عاماً) كان محظوظاً أكثر من غيره، فقد تخرج من الجامعة، بعد أن درس كمبيوتر، وقد حصل أخيراً على وظيفة مبرمج للهواتف الخلوية، ولكنه أضاع، كما يقول، العديد من فرص العمل الجيدة بسبب عدم قدرته اللحاق بمواعيد مقابلات عمل.
المفارقة أن بلال، الذي يسكن في اليادودة، وكانت جامعته مخدومة بحافلات مهيأة لاستخدام المعاقين، تخرّج كما يقول بصعوبة، إذ كان يتغيّب عن كثير من المحاضرات بسبب عدم قدرته على الوصول إلى الجامعة في الوقت المحدد.
السبب هو أن هذه الحافلات، عدا عن قلة أعدادها، غير خاضعة لنظام تردد محدد يجعل لها مواعيد ثابتة ومعروفة، تمكّن المعاقين من برمجة تنقلاتهم وفقها، بل هي تسير ضمن نظام الدور العادي للحافلات العادية، وبهذا فإن المعاق الذي يصل إلى مركز الانطلاق بغية ركوبها، لا يعرف إن كان سيجدها لحظة وصوله، وهو أيضاً لا يعرف عندما تكون غير موجودة بموعد عودتها إلى مجمّع الباصات.
الأمر الذي يقول رئيس اللجنة الإعلامية في المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين أحمد جميل شاكر، إنه يجب أن يتغير، فهذه الحافلات يجب أن يكون لها ترددات ثابتة، وأن يتم الإعلان عنها.
لكن المهندس عبد الرحيم وريكات، مدير دائرة النقل في أمانة عمان الكبرى ينوّه أن تحديد مواعيد خاصة لحافلات المعاقين غير ممكن، فهذه الحافلات وإن كانت مهيأة لاستخدام المعاقين فهي في الأصل لنقل الركاب من غير ذوي الإعاقة، وتحديد مواعيد خاصة لها، سيعني أن الحافلة ستمضي وقتاً طويلا لحين تأمين “حمولة معقولة” من الركاب، وهو أمر غير عملي، كما يقول.
في نفس السياق، يشير المهندس عبد الستار أبو حسان، نائب الرئيس الفخري للاتحاد العالمي للمواصلات العامة، إلى نقطة أخرى تجعل هذه الحافلات قاصرة عن تقديم خدمة حقيقية للمعاقين، وهي أنها ليست جزءا من منظومة متكاملة تؤمن خدمة النقل للمعاقين.
ويضيف “ما هي الفائدة منها إن كان المعاق سيكون مضطرا إلى تأمين وسيلة نقل من منزله إلى مركز الانطلاق والعكس؟ إنه في هذه الحالة لن يتجشّم من الأساس عناء استخدامها”.