حق التعبير عن المعتقد الديني: الفرد مقابل المجتمع

الرابط المختصر

حرية التعبير عن المعتقد الديني في الأردن، من يضع حدودها؟ الفرد، المجتمع، أم الدولة ومؤسساتها الرسمية والأهلية؟ وما حدود سلطة كل منها، وكيف تنعكس على حقوق المواطنة لمعتنقيها.

ليس المجتمع وحده من يفرض تقاليده على هذه الحرية، يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الاردنية، حلمي ساري. “إذا كان هناك احترام لحق الانسان في التعبير عن رأيه وفكره ومعتقده، يكون المجتمع مهيئا لتقبل هذه الحريات وهذه الآراء”.

ويفسر وجود ضغوطات على حقوق الاقليات المذهبية أو الفئات التي تخالف النظام السياسي السائد، في التعبير عن نفسها، بأن “الطبقة هي التي تحكم المجتمع وتفرض قيمها ومن يخالفها يصبح مغايرا ويضطهد عبر التاريخ. لكن مع حركة حقوق الانسان عبر العالم وانتشار الديمقراطية اصبحت حرية الفرد أكثر قبولا في المجتمعات”.

“لكن في عالمنا العربي حيث مهد الديانات الثلاث جعل الناس يؤمنون بها ولا يتقبلون الاديان الأخرى أو المعتقدات ذات الرؤى المختلفة عن الاديان السماوية المكفولة بالقوانين”، يضيف ساري.

وحرية المعتقد الديني عموما اشكالية على المستوى العالمي، وغير مقتصرة على العالم العربي أو المسلم، وفقا للناشط الحقوقي رياض صبح.

ويوضح أن هناك “علاقة عضوية بين حرية المعتقد وفكرة المواطنة لكنها أوسع من المواطنة”. ويدعو صبح للعودة إلى المعايير الدولية التي التزم بها الأردن عندما صادق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتحديدا المادة ١٨. و”استنادا إلى هذه المادة يكون الربط بين الفكر والوجدان والدين وحق الأفراد في تقلد الشؤون العامة، والتي يصعب الفصل بينها”.

الموضوع “شائك” بالنسبة لمحمد البيطار، وهو شاب مسلم لديه قناعاته الخاصة بتطبيقات الإسلام. ويقول: “الكلام النظري حول احترام الآراء والمعتقدات الأخرى سهل جدا لكن عند التطبيق الواقعي تصطدم بالكثير، مثل طبيعة السلطة الاجتماعية والعادات والتقاليد”.

ويلفت إلى أن المجتمع في الدين الواحد لا يسمح لك بأن تنفرد في رأي، فداخل الدائرة الإسلامية مثلا عندما تأخذ رأيا إلى اليسار أو اليمين قليلا، تجد أن العائلة لا تسمح لك بذلك. ويدعو إلى وضع ضوابط في مجتمع متدين لكي لا يعتدي أحد على حرية الآخرين في معتقداتهم الدينية، “لكن الممارسة والتطبيق ليست بالأمر السهل وكذلك وضع الضوابط والحدود ليس سهلا. ولا يكفي أن يبت فيه علماء دين، بل علماء اجتماع وغيرهم”، يقول البيطار.

ويتساءل عن مدى تقبلنا لمعتقدات أخرى، أديان أخرى أو لا دين؟

“على مستواي الشخصي، قد أتقبل أن يكون لي صديق ملحد لكن قد أشعر بالحرج من أن يكون هناك منبر أو سلطة يخاطب بها المجتمع لأنني سأشعر بخطر يهدد أسرتي. وهنا أقع بالتناقض بين السماح بحرية الرأي والتعبير وبين الخوف منها”.

ويستدرك البيطار قائلا: “في نفس الوقت تعلمت من عقيدتي أن الإنسان لا يجب أن يقلد في العقيدة بل تكون بالاقتناع ولا يمكن فرضها على أحد، فكل من قلد في التوحيد فإيمانه لا يخلو من ترديد. والإسلام والقرآن خاطب الإنسان: أفلا يعقلون أفلا يتفكرون. وإذا تعمقنا في الدين نجد أنه يسمح بالآراء المختلفة لكن يبدو أننا أخذنا باتجاه متزمت جدا في الدين لدرجة أننا داخل المذهب الواحد لا نسمح بآراء أخرى”.

ريم، شابة مسلمة لديها فهمها الخاص للإسلام ويتلخص في أن “القرآن هو المصدر التشريعي الوحيد للمسلمين”، فهو “المعجزة الوحيدة الباقية بين أيديهم”. وهي نظرة تخالف وجهة النظر السائدة بين المسلمين الذين يعتبرون الأحاديث النبوية ثاني مصدر للتشريع بعد القرآن.

لكن ريم تجد صعوبة في التعبير عن أفكارها. “أقول رأيي العقائدي ولكني لا أناقش بعد ذلك، لما يولده النقاش من عداوات. فنحن مجتمع نرفض الآخر ونتحول إلى الفكر المركزي الذي يجعل الإنسان صلبا فكريا وغير متقبل لأي فكر مخالف. وترتبط أزمة تقبل المجتمع لمثل أفكارنا بأزمة العقل العربي بشكل عام.

وتحمل ريم مسؤولية رفض المجتمع للرأي المختلف لـ”مناهج التعليم التلقيني التي أدت إلى غياب الفكر النقدي على مدى مئات السنين”. وتعزو رفض معظم الناس للآراء المختلفة إلى ما يسمى بـ”حد الردة” وهو حكم، وفقا لريم، “غير موجود في القرآن ووجد للتصدي لجميع الأفكار المغايرة والمخالفة”.

في الإعلام

المسألة ليست سهلة ولا متاحة في المجتمع والدولة، يقول الكاتب إبراهيم غرايبة، “يوجد سلطة مجتمعية كبيرة جدا تمنع الناس من التعبير عن اعتقادها أو ممارسة سلوكها الديني وعبادتها وتدينها كما تفهمه ويرتاح ضميرها له. لكن يوجد قدر واسع من الحديث وإبداء الرأي”.

ويشير غرايبة إلى أنه يستطيع مثلا كتابة ونشر آرائه التي يصفها بأنها قد “تخالف الرأي السائد”. “ربما يستطيع البعض أن يصدر أحكاما تصل إلى الردة أو مخالفة أقل من ذلك. لكن أتوقع أن المناخ العام لدينا الآن يسمح للإنسان بأن يعبر عن آرائه وأفكاره المتعلقة بما يؤمن أو لا يؤمن به، ليست إلى درجة مرضية لكن ليس فيها قهر للضمير”.

لكن بوصف عام يرى الكاتب أن التعبير عن القناعات الدينية في الإعلام “صعب جدا، في حين أن التعبير عن الرأي السياسي هو الأسهل”. ويضرب مثلا حادثة الرسوم المسيئة للرسول: “لم يكن هناك أي مجال للتأني، ظهرت موجة جماهيرية هستيرية تريد البطش بالآخرين. في صحيفة الغد تعرضنا للهجوم بالرغم من أن الصحيفة كانت ضمن الحملة والهجمة المضادة للرسوم”.

ويتفق الكاتب محمد أبورمان مع غرايبة في أن حرية التعبير عن القناعات الدينية مقيدة، بل و”مقيدة أكثر من الحرية الفردية في الممارسة”. ويشير إلى “كتاب في الغد أرادوا نشر مقالات تخالف المعتقدات الفقهية السائدة واجهنا صدام واحتجاجات وسحبت اشتراكات من الصحيفة”.

وإذا كان التعبير في وسائل الإعلام عن آراء مخالفة للمعتقدات الفقهية السائدة بين المسلمين من السنة في الأردن يثير جدلا واحتجاجات، فإن التعبير عن قضايا الأديان والطوائف الأخرى تغيب تماما عن وسائل الإعلام، حتى وإن كان في حدود التعريف بهذه الأديان.

“يتجاهل الإعلام قضايا المسيحيين”، يقول جريس حبش، أحد قادة الكنيسة الإنجيلية في الأردن. ويروي تجربته مع الإعلام عندما طلب منه كتابة مقال في إحدى الصحف اليومية عن أسس اختيار النائب. “كتبت عن أنني أؤيد النائب الذي يقف مع حقوق الإنسان والحريات الدينية، وفوجئت بشطب تعبير “الحريات الدينية” من المقال عند الطباعة. وهو ما يشير إلى أن الصحف اليومية تضع لنفسها خطوطا حمراء عندما يدور الحديث عن الأديان”.

ومن الانطباعات والتعميمات الخاطئة عن الإنجيليين، والتي قد يساهم الإعلام في تكريسها، تفسير بعض الإنجيليين بأن ما يجري في فلسطين هو تتمة لنبوءات الكتاب المقدس. “وهذا ليس تفسيرا لعموم الإنجيليين، ونحن كإنجيليين أردنيين نرفض هذا التفسير ونعتبر وجود إسرائيل وجودا سياسيا وليس دينيا. أنا مثلا من أصول فلسطينية ومن حقي العودة إلى بيتي، وهو ما ينسجم مع مفهوم العدالة الإلهية”.

ويتابع: “الكنيسة الإنجيلية كنيسة مستقلة، ففي الأردن ليس هنالك أية سلطة خارجية على الكنيسة. وكإنجيلي أردني يتأثر بقضايا الأردن، وكذلك الإنجيلي الأمريكي يتأثر بالقضايا الأمريكية، ومن الخطأ نسبة أخطاء الإنجيليين الأمريكيين إلى إنجيليي الأردن والمنطقة”.

تنميط وسوء فهم

يقول حازم فياض، شاب يعتنق الديانة الدرزية: “هنالك بعض المواقع التي تدعي أنها مرجعية في المعلومات عن الدرزية إلا أنها لا تنقل معلومات صحيحة، وقد يكون لها دور سلبيي يظهر من خلال التعليقات المسيئة للدرزية وأتباعها”.

وكذلك الحال مع الديانة البهائية وتاريخها، والتي “تهاجم وتشوه في عدد كبير من المواقع الالكترونية التي تورد معلومات مغلوطة”، وفقا لفارس النعيمي الذي يعتنق الديانة البهائية. وينتقد بعض التقارير الصحفية التي تنقل “معلومات غير صحيحة عن البهائية، ولا تسعى لأخذ المعلومات من مصادر الديانة نفسها”.

وبذلك ظهرت انطباعات خاطئة لدى بعض الناس ضد الديانة البهائية، مثل وصفهم بـ”الكفار” أو مواقف مسيسة ليس لها أساس من الصحة كربط البهائيين بنشأتهم في إيران من جهة، وبمكان قبلتهم في عكا وغيرها من الأماكن المقدسة لديهم في حيفا، واتهامهم بإقامة علاقات مع إسرائيل.

“تتفاوت ردود فعل الناس إزاء البهائيين من حالة إلى أخرى، ولكننا نعتبر أنفسنا جزءا من المجتمع الأردني، وعلاقتنا بشكل عام مع الناس ودية ويتقبلوننا. من الطبيعي أن يكون هناك تخوّف لدى البعض من المجهول، ولكن بعد معاشرتنا يتضح لهم حسن سلوكنا وأخلاقنا مما يزيد من الثقة والعلاقة الوديّة مع جيراننا وزملائنا في العمل ومعارفنا”، يقول فارس النعيمي.

ويقول حازم فياض: “عدم معرفة بعض الناس بالديانة الدرزية، يجعلهم في البداية يتخوفون من التعامل معنا، والنفور والابتعاد عنا. لكن، ومع مرور الوقت وزيادة التقرب والتعرف، يتبين لهم أن تلك الأفكار المسبقة عن الدرزية خاطئة، حيث كانوا يعتقدون أن الدرزي كائن مخيف لا يعبد الله بل أنه يعبد الشيطان”.

إعلام بديل

وكبديل عن الإعلام السائد قرر أمجد الفيومي إنشاء مدونة خاصة به يعبر من خلالها عن فهمه الخاص بالإسلام، لكنها كانت باسم وهمي وليست باسمه الحقيقي لغاية الآن ورغم أن عدد زوارها وصل إلى 45 ألفا. ويقول: “شعرت أن أفكاري ستسبب لي مشاكل لكن أردت نشرها، وهي في معظمها فهم جديد للدين. كثيرون قد يعادونني ويكفرونني بسبب فكرة مثل أن العلمانية أو الديمقراطية لا تتعارض مع الدين، لأنهم يصدرون أحكاما جاهزة على أي فكرة أو تفسير مخالف لما تعودوا عليه، حتى ولو لم يتعمقوا فيها”.

ويزيد: “أول المشاكل ستأتي من خسارة أصدقائي. هذا بالإضافة إلى الرقابة السياسية التي تمنعني من إشهار هويتي في مدونتي، خوفا من أن أحاسب على نشاطي السياسي السابق”.

كتب ممنوعة

وقبل القيود على نشر أفكاره، واجه أمجد قيودا على الكتب التي يسمح أو لا يسمح بقراءتها داخل الحركة التي انضم لها في مرحلة مبكرة من عمره وغادرها بسبب القيود التي فرضتها على حريته في التفكير والتعبير وممارسة حياته.

“في الفترة التي تدينت فيها خلال دراستي الجامعية قاطعت كتب نجيب محفوظ رغم أنني رأيت فيه نصا رائعا لكن سمعت أن الفتاوى في رواية “أولاد حارتنا” التي لم أكن مطلعا عليها، تقول أن محفوظ خرج عن السياق الديني ويجب أن لا نقرأها”.

ويضيف: “بعد أن مررت بتغيرات فكرية وخرجت من الدائرة التي كنت فيها، عدت وشغلت عقلي فيما أتلقاه وقرأت الرواية ووجدت فيها على وجه التحديد نصا تطويريا في فهم الدين وفيها طرح محفوظ رؤية علمية للدين متقدمة جدا لكن تم تكفيره واقصاؤه لأن الشيوخ لم يفهموا الرواية ولم يجدوها تتفق مع تيارهم الذي يريدون فرضه”.

وتكررت تجربته مع كتب أخرى، مثل رواية حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر” التي تم تكفيرها ومنعها في حينها. “فلماذا أتبنى أفكارا جاهزة ممكن أن تحرمني من مسائل مهمة جدا؟”، يتساءل أمجد.

ويرجع محمد البيطار إشكالية تكفير كتاب مثل نجيب محفوظ وناصر حامد أبوزيد، إلى ما بعد الطفرة النفطية وتأثير الوهابية السعودية في المنطقة. ويتابع: “لو ظهرت كتب طه حسين الآن، وتحديدا كتابه في الشعر الجاهلي، لتم تكفيره بل ومحاولة قتله”.