“المسيحيون في الأردن .. بين المواطنة والتهديد بالحرق .. تاريخ متجذر ومستقبل سيبقى”

لم أتصور في حياتي أنني سأكتب يوما لأتكلم عن المسيحيين في الأردن.. لا مدافعاً عن مواقف سياسية قد تبناها بعضهم أو حتى ببساطة عن أسباب وجودهم على هذه الأرض ..

 قبل الأمس قرأت صدفة على موقع تويتر تغريدة لأحدهم كان نصّها كالآتي : “إذا اخ مسيحي “صليبي” اخر 10 تويتات اله عن الاخوان و السلفيين و الاسلام .. بطلعلي اقله انت مش مواطن انت اقلية بدها حرق”..

 مهما كانت الأسباب المؤدية أو الفكرة التي أراد هذا الأخ إيصالها من خلال تغريدته هذه .. أرغب بالتوقف عند المصطلحات المستخدمة و لغة التهديد الموجودة في كلامه .. بداية المناداة بنزع المواطنة عن إنسان لمجرد أن أفكاره لم تتوافق معك .. تقوّض فكرة المواطنة من جذورها ..و بدلا من محاولة جسر الهوة في المجتمع وردمها تزيد من إتساع هذه الهوّة التي بدأت بالتشكل بين أطياف المجتمع، وتصبح أنت وكلامك عبئا على هذا البلد و جميع مواطنيه.

 لا يحق لأحد أيا كان أن يقوم بتهديد مواطن عبر جنسيته  وبسحب الإعتراف بمواطنته لسبب له علاقة بعرق أو أصل أو دين .. من حق هذا المواطن التعبير بمطلق الحرية عن رأيه و إن كان يشكل جزءا صغير من المجتمع .. فهذا لا ينفي حقه بالتعبير عن وجهة نظر مخالفة للأغلبية .. المجتمع الأسود بأمريكا هو أقلية .. لكنه جاهر بمطالبه قبل 50 عاما و نزل الى الشارع وإنتزعها عنوة من حكّامه .. و توّج ذلك في النهاية برئيس أمريكي أسود البشرة ..

 إطلاق مصطلح الصليبي على مسيحيي الأردن خاصة والشرق العربي عامة هو قمة في التنكر للواقع التاريخي ببعديه  المعاصر والتليد.. فمسيحيو بلاد الشام وقف معظمهم مع إخوتهم المسلمين في وحدة حال منذ انتشار الاسلام في هذه الأرض، بل ووقفوا مع المسلمين وحاربوا ضد الغزوات و الحروب الصليبية. لقد قاتلوا معهم، وتحالفوا معهم دفاعا عن الأرض والمقدسات والتاريخ.. و عندما عاد الغزو الصهيوني إلى فلسطين لم يقف هؤلاء المسيحيون على الحياد لا بل شكّلوا الجماعات المسلحة وحاربوا و قاوموا و استشهدوا دفاعا عن فلسطين.. فبأي حق تدعوهم بالصليبيين.. لا ينكر أحدا بأن المجتمع المسيحي في الأردن هو أقلية عددية حافظت على وجودها على مدار أكثر من ألفي عام.. بعضها تخللته دماء ومعارك للحفاظ على وجودهم.. و أخرى إحتكموا فيها لشروط العيش تحت حكم الجزية.. و فترات أخرى طويلة عاشوها في سلام و تآخ مع باقي مكونات المجتمع.

 

و في العصر الحديث و مع نشأة الدولة الأردنية في الربع الأول من القرن الماضي .. وتحول الحكم من مناطقي إلى دولة مركزية يحكمها الدستور أولا والقوانين و التشريعات ثانيا، وقد نص هذا الدستور الأردني على ما يلي : “الاردنيون امام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وان اختلفوا في العرق او اللغة او الدين او الجنس.”  و في ذلك ما يكفي من  شرح و صون لجميع الحقوق وكذلك الواجبات التي لم يبخل بها “المسيحي” يوما على وطنه.. بل كانوا دوما جنودا شرفاء كباقي إخوتهم في هذا الوطن.. يخدمونه و يقدمون له كل شيء في سبيل رفعته و الحفاظ عليه و من جميع المواقع.

 تاريخيا وجد المسيحيون الأردنيون في الحكم الهاشمي العديد من الأسباب التي جعلتهم يلتفون حوله، فبعد مئات السنين من حكم العثمانيين الذي تراوحت درجة تمتع المسيحي بحقوقه الإجتماعية و السياسية والدينية خلاله حسب التقلبات السياسية والاجتماعية.. و بلا تبجيل لأحد أو صنع هالة حوله يمكن القول وبأريحية أن الهاشميين منحوا للمجتمع المسيحي في الأردن وفلسطين الحقوق المتساوية والكاملة  أسوة بجميع المكوّنات الأخرى للمجتمع و تحول المواطن المسيحي من ذمّي في حماية الدولة العثمانية في بعض مراحلها إلى مواطن عادي كغيره لا يتميّز عن أي مواطن بشيء و لا ينقص عنه بشيء أيضا  وأصبحت الصورة الإجتماعية الجميلة التي رسمت هذا المجتمع كلوحة فسيفسائية متكاملة نفخر بها.

 اليوم وفي ظل ما يسمى بالربيع العربي والثورات العربية ظهرت حالات إضطهاد شديد مورس ضد المسيحيين في العراق ومصر وغزة وسوريا مؤخرا وصلت حدود القتل الجماعي والإرهاب القذر و تفجير الكنائس وتحطيم الصلبان والأيقونات الدينية بكل وحشية وبربرية على أيدي زمرة من الجهلة، في ظل هذا يأتي هذا الأخ المتعلم والذي ينحدر هو أيضا من أقلية ديموغرافية ليتفوه بما لا يفقه.. محاولا إيصال فكرة مؤداها أن المسيحي الذي يدافع عن النظام السياسي أو الذي ينتقد الحركات السياسية الإسلامية هو خائن لا يحق له الإعتراض وإلا سوف يُحرق و تنزع عنه المواطنة، ولا يحق له التعبير عن رفضه لصور سلبية ومسيئة رآها في جميع الدول العربية المحيطة به، ولا يحق له أن يرفض الأحزاب التي مارست نهجا اقصائيا سقيما أو يرفض الجماعات التي ارتكبت الجرائم باسم الدين وتحت ذريعة الثورة و خلف ستار الفوضى والدين والثورات و دماء شهداء الحرية في العالم العربي منهم براء.

 هذا المواطن المسيحي بعد كل ما رأى من مصائب، من حقّه أن يخاف على نفسه ووطنه وعرضه وأن يخاف ان تمتد هذه السلوكيات الى بلده الآمن المتآخي، وهذا لا يعيبه في شيء، بل العيب كل العيب لحِق بمن سمح لهذه الجرائم و المجازر أن تحدث ولم يحرّك ساكنا ليدافع عن من جاوره عمرا وإقتسما الرغيف فيما بينها ..  وهذا ليس دفاعا عن مصالح بقدر ما هو دفاع عن وجود .. ومعظم التجارب التي نراها من حولنا قدمت للأسف صور باهتة في أحسن أحوالها لأسلوب التعاطي مع المسيحيين من جهة الأحزاب الدينية .. و صورا سوداء دموية في أسوء أحوالها من قتل وتهجيير وتفجير في أمكنة أخرى..

 ولست معنيا كمواطن مسيحي عربي أردني بالمقارنة المجحفة بيني وبين ما تقوم به الولايات المتحدة بذريعة الحرب على الإرهاب فأنا لست أمريكيا لتضطهدني وتقتص مني .. بل أنا عربي أردني منذ ولدت و حتى أموت ..

 قبل عدة أسابيع قامت فتاة مسيحية أردنية بإعتناق الاسلام هنا في الأردن .. و هذا بالطبع حدث عادي .. حيث أن لكل شخص بنظري الحرية بإختيار ما يقنعه دينيا.. و لكن ظهر محام من أحد العشائر الكبيرة  بخطاب يزف فيه هذا الخبر للأمة الإسلامية مشهّرا بالفتاة و أهلها و داعيا المسيحيين الذين يريدون اعتناق الاسلام للجوء لعشيرته التي تكفل لهم حق الحماية!! .. مسيئا بذلك للفتاة وأهلها وعشيرته وعشيرتها ومسيئا أيضا للنسيج الاجتماعي الوطني المترابط.

 نعم وبكل أسف لقد وصلنا إلى هذا الدرك .. و أصبح البعض ينظر للمسيحي على أنه دخيل على المجتمع ولا يصلح جزءا من تركيبته .. فهو إما أن يخضع ذليلا لرأي الأغلبية بلا أي حق حتى حق الإعتراض السياسي والفكري، أو يحرق ويقتل ويجرد من المواطنة .. ياللعار وياللعيب!

 

لم يحاول المسيحي الاردني يوما أن يسلخ نفسه عن وطنه .. فأنا شخصيا وكل من يعرفني يعلم بأني لم أعرّف يوما نفسي بأنني مسيحي أو أي تعريف مجتزأ أو ديموغرافي آخر.. بل أنا مواطن أردني و فقط. أفتخر بعروبتي وأردنيتي.. أمّا علاقتي مع ربي فهي شأن خاص بي وما سوا ذلك فلا يعنيني.

 و لكن كما فجّرت الثورات العربية الخوف لدى المسيحيين كما يبدو .. فجّرت كذلك الأمراض الكامنة لدى آخرين .. فصار البعض يدّعي القوة والغلبة لأنه من (الأغلبية) رغم أن هذه الأغلبية بريئة منه ومن فكره السقيم .. أو كأنّ الاستقواء بالغير هو من الرجولة في شيء! .. وإن مثل هذا إن دل على شيء فهو يدل على أن البعض يحتاج إلى علاج نفسي سريع وعميق قبل أن تتفاقم حالته أو يعدي سواه بأمراضه.

 أكتب هذه الكلمات متألما لأقول بوضوح وببساطة: كأردنيين لن نسمح لأحد بأن يهدد نسيجنا الاجتماعي الثقافي المترابط الذي يشكل المسيحيون جزءا مهما وعميقا منه فلن يهدد أحد المسيحي الأردني وإن اعتبره سقيم نفس (أقلية عددية). ولن نسمح كأردنيين أن يسيء أحد إلى تاريخ النضال الوطني الذي يشكل النضال المسيحي حجر زاوية فيه. لن يساء إلى نضالنا و دماء أجدادنا و جذورنا الراسخة في هذه الأرض قبل الرسالات والأديان ..  و لن نقبل بإنحدار مستوى الحوار في المجتمع الأردني ليصل إلى حضيض مثل حضيض العنصرية والتفرقة الدينية..

 أنا أرفض كمسيحي أردني أن يقوم مواطن مسيحي أردني بإثارة الفتن أو النعرات، ورغم أننا نؤمن بأن من لطمنا على خدنا الأيمن فسندير له الأيسر لكن هذا لا يعني أننا أقل شأنا وعزوة ومواطنة وحقوقا و شرفا في وطننا وبين أهلنا وإن كل الأردنيين الشرفاء أهلنا وعشيرتنا وعزوتنا الذين ما فارقناهم ولا فارقونا يوما، ونرفض أن يتم زجنا تحت أي مسميات أو تكتلات إلا علَم الأردن .. فلا تنزعوا عنا أردنيتنا. و لا تسمونا إلا بأسمنا فنحن مواطنون أردنيون .. شاء من شاء و أبى من أبى ..

سليم نقل

 

أضف تعليقك