ومن الولاء ما قتل

ومن الولاء ما قتل
الرابط المختصر

 

"ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ، فاحكم فإنت الواحدُ القهّارُ". هكذا أبى الشاعر الكبير ابن هانئ الأندلسي إلا أن يعبر عن ولائه للخليفة المعز لدين الله الفاطمي بهذه الطريقة الموغلة في التطرف والتملق، الأمر الذي جعل العديد من المؤرخين والنقاد ينصرفون عن التراث الشعري الغني للرجل ويسلطون الضوء على هذا البيت لما يجسده من شطط حتى أن ابن كثير في ترجمته للشاعر قال: "وهذا خطأ كبير وكفر كثير". ويجسد هذا المسلك لابن هانئ الأندلسي نهجاً لا يزال ماثلاً حتى اليوم في التطرف في التعبير عن الموالاة والاتباع للسلطة الحاكمة دون تبصّر ولا رؤيا. ولعل النزعة الانقيادية في الموالاة بمعناها السياسي في معظم الدول العربية تجد مرجعها في الجذر الأصولي لهذا المبدأ لغةً واصطلاحا. فالموالاة لغةً هي: الاتباع والقربى والمحبة والنصرة واتخاذ الولي أو المولى... وفي اصطلاح السياسة الشرعية: طاعة الحاكم واتباع أمره ونصرته ومحبته طالما قد تمت له البيعة وما دام يحكم ب"ما أنزل الله". وقد اكتسبت الموالاة أهميتها الشرعية بوصفها تمثل حداً فاصلاً بين الكفر والإيمان لدى العديد من المذاهب في ما يعرف ب"الولاء والبراء"، حيث يوجب الولاء اتباع ومظاهرة ونصرة الحاكم الذي يطبق الشرع والبراء يلزم الشخص بضرورة إعلان براءته من الحاكمية بغير ما أنزل الله في كل تفاصيل الحياة ومناحيها  وهو ما يختزل في اصطلاح الجماعات والمذاهب الأصولية بمصطلح "الطاغوت".

 

والمتابع لأدبيات العديد من حركات الإرهاب الديني الآن يجد أن تصنيفها للمجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتماعات "كافرة" على اختلاف التكييف ما بين "كفر أصغر" و "كفر أكبر"، مناطه مسألة الولاء والبراء وفقا لفهم وتأويل تلك الجماعات. وفي مجال  تحليل فلسفة تصنيف وتوصيف التيارات السياسية بين موالاة ومعارضة في دولنا العربية، يجد المتأمل أن ثمة التقاء في المفاهيم وطريقة توظيفها بين تيارات الموالاة بمعناها التقليدي وأصحاب النظرية الأصولية للولاء والبراء. فمن يصنفون أنفسهم بأنهم من الموالاة فيمواجهة المعارضة، إنما يبنون تصنيفهم هذا على أساس تسليمهم المطلق لكل ما تقوم به الدولة من ممارسات وما تضعه من سياسات وتشريعات بغض النظر عن خطئها أو صوابها، فالفيصل في ولاء هؤلاء يكمن في مجرد صدور الفعل عن الدولة وكفى، وكأنهم أتباع لطريقة من طرق الصوفية تسلم بالحكمة والطاعة المطلقة لشيخ الطريقة، وهذا الجانب يحاكي الموالاة بمعناها الأصولي من حيث كونها تبعية وقربى واتخاذ المولى والولي وطاعته بالمطلق، مع تحول بسيط في مناط تلكم التبعية والانقياد لتغدو عند تيارات الموالة السياسية التقليدية منصبةً على الحاكم عوضاً عن الحاكمية. وفي المقابل فإن هذا الانقياد العاطفي والعملاني غير المأدلج للموالاة السياسية التقليدية؛ يرى في كل صوت معارض للدولة نموذجاً للبراء الذي ينبغي إقصاؤه بل استئصاله من المشهد السياسي برمته لتقوم الحجة على االمعارضين بأنهم خونة أو أصحاب أجندات أجنبية، وهذ يتقاطع بوضوح مع االبراء بمعناه الأصولي مع الاختلاف ذاته في المناط، إذ هو منصب هنا على مخالفة الحاكم بينما في مفهومه الأصولي يتعلق بحكم الحاكم "بغير ما أنزل الله".  . وواقع الأمر أنه يمكن الإشارة إلى عاملين أساسيين يغذيان ظاهرة الموالاة التقليدية ذات الطابع الاستئصالي. العامل الأول يتعلق بالدولة صاحبة الولاية التي تغذي تيارات الموالاة الاستئصالية، إذ  أنها تجد في ذلك متنفساً لحالة الانفصام السياسي الناجم عن التضاد بين ضرورات التماهي مع تيارات التغيير والمطالبة بالإصلاح التي اجتاحت وما تزال العديد من الدول العربية، وبين استمرار الارتهان للهوية الأصيلة ذات الطابع الشمولي الأبوي، الأمر الذي يجعل حاجة الدولة المنفصمة ملحةً لأداة غير رسمية تحركها عن بعد وتحقق من خلالها غايات الإقصاء والاستئصال لمعارضيها مع الإبقاء على هويتها الأصيلة حاضرةً في الوعي الجمعي للأمة، لذلك تراها تلجأ  لتغذية بل ربما تشكيل تيار، من الموالاة التي تحمل على عاتقها تنفيذ مهمة "البراء" بأساليب يغلب عليها طابع البلطجة الفكرية التي لا تليق بأجهزة رسمية خصوصاً في هذه المرحلة، لذلك فإن تيار الموالاة هذا يشكل "نبوت" الفتوة الذي يقرع به رأس كل من لا يطيع فضلاً عن كل معارض. والواقع أن المتابع للرسائل الإعلامية والتفاعلية لتيارات الموالاة التقليدية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الجتماعي، يجد أن السحر انقلب على الساحر أو يكاد، ذلك أن غلو "جوقات" الموالاة في مديح السلطة والتبرك بها الذي فاق في شططه مسلك ابن هانئ الأندلسي والممارسة الممنهجة للبلطجة الفكرية لترهيب المخالفين ،  باتت تشكل عبءً أخلاقياً على الدولة صاحبة الولاية التي يصعب عليها تحمله لأمد طويل، وهو من بعد يزيد من قاعدة المعارضة ويؤكد شكوك الكثيرين بغلبة النفاق السياسي في الخطاب العام والممارسة.

أما العامل الثاني، فيتعلق بوجود خلط كبير لدى المنخرطين في تيار الموالاة التقليدية بين  مفاهيم ومصطلحات الفارق بينها كبير من حيث المضمون والأثر، فتجدهم يختزلون المواطنة والدولة والحكومة بل وحتى الشعب؛ في الفرد الحاكم أو الحكومة التي تنفذ رغباته بمنأى عن قيم الانتماء والمواطنة التي كرستها الدساتير وأدبيات العقد الاجتماعي كما وضعها الفيلسوف العظيم جان جاك روسو وآخرون. والحقيقة أن هذا العامل يبدو للوهلة الأولى مهيناً بعض الشيء لأصحاب هذا التيار، لكون النتيجة المترتبة عليه  تفترض فيهم السطحية والجهل بالفلسفة والعلوم السياسية، وهذ ما لم نرمِ إليه، ولكننا نجد أنفسنا في مأزق آخر لدرأ هذه الشبهة عن أتباع هذا التيار، إذ لا يغدو من تبرير لنهجهم الفج في إقصاء الآخر واستئصاله سوى أجندات شخصية وارتهان لمصالح آنية أو طويلة الأمد مع الحكومات التي تقام من أجلها الصلوات وتكال الشتائم والاتهامات ضد كل من يحاول الاختلاف معها.

إن الدولة الذكية تعلم أن الغلو في المديح هو ذم بواح، والنقد البناء تصحيح وإصلاح، فلسنا بحاجة لابن هانئ أندلسي فلدينا منه كثير، وإنما نحتاج لناصحين أمناء يكرسون القيم الحقيقية للولاء والانتماء.