*"من لم يكن رياضيًا، فلا يطرق بابنا"
خلال خبرتي في التعليم، التي تجاوزت ربع قرن من الزمان، كان هنالك سؤالًا تطرحه الطالبات ألا وهو: لماذا نتعلم الرياضيات؟ سؤالا استنكاريًا أكثر منه معرفيًا، كانت الإجابة والنقاش حول هذا السؤال يستمر حصة كاملة مدتها ٥٥ دقيقة، للمرحلة الثانوية، ولست هنا بصدد طرح هذا النقاش، ولكن لفتح باب النقاش حول أسئلة هامة مثل: لماذا نتعلم؟.
كيف نتعلم؟ وما هو الطالب الذي نريد؟ وما هي الكيفية التي نحقق من خلالها الأهداف التعليمية التربوية؟؛
فالحديث عن تطوير العملية التعليمية التربوية، مهمة شاقة وشائكة، ولأن هذة العملية محورها الطالب وموجهةٌ نحوه سأبدأ بمحاولة لتحديد عناصر المشكلة إنطلاقًا من المنتج الرئيس وهو الطالب، ثم الانتقال إلى تحديد المشاكل التي نواجهها من خلال عدة محاور وهي: المحتوى التعليمي التربوي، المعلم، البيئية التعليمية. ثم أنتقل بعد ذلك لمقترحات لحل هذة المشكلات، وذلك إدراكًا مني أن عملية التطوير هذه هي عملية متكاملة وتراكمية، ولا تقبل التجزئة وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد وإدارة موارد الدولة، ولكني سأركز جهدي بتخصيص الحديث عن مادة الرياضيات ما أمكن ذلك، وتحديدًا عن المرحلة الدراسية الثانوية الأولى لما يسمى الصف الأول الثانوي العلمي في المدارس التي تعتمد المنهاج الوطني الأردني.
يعاني الطالب في المرحلة الدراسية الثانوية الأولى من الضعف الشديد في معرفة وتمثل المفاهيم الرياضية بجميع مستوياتها وبفروق فردية، مفاهيم مثل: الضرب، القسمة، الجذور، المربعات، المكعبات، المنازل العشرية، العدد الأولي، العدد الحقيقي، المحيط، المساحة، الحجم، الوسط الحسابي، الاحتمال، الاقتران، النسبة، التناسب، المتغير، المجهول، معادلة، متباينة، نسبة مثلثية، هرم، مخروط، مستوى ديكارتي، زوج مرتب، مجموعة.. إلخ.
وهذا يعني أن المستوى الأول من المعرفة يعاني من خلل جسيم، فيصبح التعامل مع مادة الرياضيات من خلال عملية استظهار القانون الرياضي والتطبيق المباشر عليه دون إدراك لجدوى هذة العملية، وافتقار للقدرة على تحليل النتائج التي يحصل عليها الطالب ومن ثم تقييمها أو مقارنتها، فمثلًا يستطيع الطالب التطبيق على نظرية "فيثاغورث" لكنه يعجز عن إعطاء التفسير مثلًا ما معنى المربع المستخدم في تطبيق النظرية، ناهيك عن الضعف في المسائل التطبيقية المتعلقة بهذة النظرية؛ فالطالب يسأل، ماذا علي أن أفعل؟ وكيف لي أن أعرف ذلك؟ وغالبًا يعرف جزء من الإجابة من خلال عنوان الدرس الفرعي، كتطبيق مباشر عليه، فهو يفتقر للقدرة على حل المشكلات، والتفكير الناقد، ويواجه صعوبة في تحديد معطيات المسألة، والمطلوب، وفصل ذلك خصوصًا في المسائل التطبيقية والتي تعتمد على النص المكتوب وترجمة النص إلى لغة رياضية، مرتبطًا بالعجز الواضح في كيفية التعامل مع مادة الجبر من خلال تطبيق أبسط العمليات على الحدود والمقادير الجبرية كالجمع، والطرح، والضرب، والقسمة ، وقانون التوزيع، والكسور الجبرية والعمليات عليها، وارتباط هذا العجز بالضعف في مادة اللغة العربية، ويصبح أكثر وضوحًا في ضعف قدرة الطالب الشديدة على البرهان، فهو لا يجيد قراءة النص إبتداء، ولا يلقي بالًا لأهمية علامات الترقيم كالفاصلة العادية، والنقطة، والتي كلاهما تحدد عبارة رياضية منفصلة عما يليها، ويصبح الأمر أكثر صعوبة حين يتعلق الأمر بتراكيب الجمل ونوعها؛ كالجمل الاسمية، والفعلية، والشرطية، والتي لها علاقة كبيرة بتحديد، وفصل معطيات النص، والمطلوب برهنته، أما بالنسبة لحل الأحاجي فهي على درجة عالية من الصعوبة كونها تتعلق بعمليات عقلية عليا تتطلب التحليل والتركيب، والاستنتاج، والتقييم.
أما القدرة على التخيل، فتلك من المهارات الغائبة، حيث ترتبط أرتباطًا وثيقًا بكون الطالب لا يجيد استخدام الرسم البياني، والتوضيحي، واستخدام المخططات والجداول، ورسم الأشكال الهندسية، ولا يعيرها إهتمامًا في تفسير المسألة، ناهيك عن ضعف قدرته على تفسير الرسومات البيانية وتقييمها، وهذا له ارتباط وثيق بمحتوى مادة التربية الفنية ومعرفة تكون الظلال، والأبعاد الثلاثية، وكذلك في مادة الأعمال اليدوية؛ فاليد غير مدربة تدريبًا جيدًا على استخدام الأدوات، فيصبح من الصعب عليه استخدام الأدوات الهندسية بكفاءة، أو حتى تدريج محاور المستوى الديكارتي تدريجًا متماثلًا، مما يؤشر كذلك لضعفه في تقدير القياسات، وعمليات المقارنة.
ولإن الطالب يعاني من الحجم الهائل من المعلومات التي يطلب منه معرفتها، وحفظها فهو يسعى جاهدًا لإقناع المعلم بشطب جزء من المحتوى، بما فيه الأسئلة، والتي غالبًا ما تكون تلك المتعلقة بالمسائل التطبيقية، والتي تشكل تحديًا للطالب والمعلم. ويطالب المعلم بعملية التلخيص للمحتوى على السبورة، وهو بدوره أي الطالب يقوم بعمليات النسخ، فيصبح الطالب متلقيًا سلبيًا، والمعلم ملقنًا، وكاتبًا، ويساوم الطالب على تخفيف عبء الواجب البيتي، والذي غالبًا لا يقوم به بنفسه، فقد يستعين بحلول جاهزة، أو يهمل ذلك تمامًا. وهو لهذا يعتبر عملية البحث، وإعداد التقارير، فائضًا عن الحاجة، وتقتصر على طباعة صفحة من موقع ما حول موضوع معين يقدمه للمعلم كنشاط يستحق عليه علامات إضافية، وتعتبر عملية نسخ جمل من الكتاب على كرتون مقوى "وسيلة"، يقبلها المعلم لتبرير زيادة العلامات دون أن يترك ذلك أثراً إيجابيًا على الطالب.
ملخص القول إن الطالب في نهاية المرحلة التعليمية التربوية وفي مادة الرياضيات تحديدا، لا يحقق الأهداف المرجوة من تعلم هذة المادة، ولا يستطيع طرح أسئلة مثل: لماذا؟، ماذا؟ ماذا لو؟، كيف؟، يفتقر القدرة على التخيل، والإبداع، والتفكير الناقد، لا يؤمن بقدراته العقلية، ويشعر بالملل والنفور والإحباط من المدرسة بكل مكوناتها، ويسعى للحصول على علامة ما تحدد قدراته العقلية بمواجهة المجتمع، وبعيدة كل البعد عن تنمية قدراته العقلية ومهاراته الجسدية، والنفسية، والاجتماعية، والأخلاقية.
وفيما يتعلّق بالمحتوى التعليمي، أستطيع القول أن المحتوى التعليمي لا يشكو من تنوع الموضوعات وزخمها، بل على العكس من ذلك تمامًا يغدو الكم الهائل من المعلومات عائقًا في عملية التعلم، وهذا يندرج على كافة مراحل العملية التعليمية، وهذا بالضرورة سينعكس على مقدار الأمثلة التوضيحية المتدرجة، والتي تساعد الطلبة بفروقاتهم الفردية على تحقيق هدف المعرفة أولًا، وحيث تتم مطالبة المعلم، والطالب بتحقيق إنجاز المحتوى بوقت محدد، مما يجعل من الطالب العنصر المتلقي وليس المشارك في تلك العملية، ويجعل من المعلم العنصر الملقن وليس الموجه.
ونجد الزخم والحشو في المحتوى للدروس الفرعية، فمثلا في الوحدة الأولى (المعادلات والمتباينات) للصف الأول الثانوي العلمي، وفي درس (حل المعادلات الجبرية بمتغير واحد)، لا يتم تصنيف الحالات التي تظهر فيها هذة المعادلات بشكل مفصل وأمثلة كافية، بل يقتصر العرض على أمثلة عديدة، وكل منها يندرج تحت طريقة تختلف عنها في مثال آخر، نفس الكلام نستطيع قوله عن درس حل المعادلات المثلثية في الوحدة الرابعة، ناهيك عن الكم الموسع من الأسئلة في نهاية كل درس.
تخلو مادة الرياضيات بجميع مراحلها من مادة المنطق الرياضي، وطرق البرهان، وهي تعد حجرًا أساسًا في بناء وتعلم أسس التفكير المنطقي، من تحديد الحقائق وفحصها بالأدلة المنطقية، وتعزيز المهارات العقلية القائمة على الإستدلال، والاستنباط، والاستقراء، والتقييم، والمقارنة، والتصنيف، وبحث الأسباب والنتائج، ... ويضاف إلى ذلك بعد نفسي واجتماعي يتمثل بتقبل كافة الآراء، وطرحها للنقاش، والابتعاد عن التعصب في محاولة للبحث عن الحقيقة.
لا تعتبر المراجعة القبلية لمهارات سابقة على المحتوى جزء أساسيًّا من المحتوى، رغم أهميته القصوى في تعزيز التعلم السابق والبناء عليه؛ فمثلًا في الوحدة الثالثة (المتتاليات والمتسلسلات الحسابية والهندسية)، لا يتم التقديم لها بمراجعة المجموعات العددية، مفهوم الاقتران، مفهوم الأنماط وكيفية الإستدلال عليها، مما يجعل المحتوى شديد الصعوبة.
قد تجد ترتيب الوحدات لا يتبع تسلسلًا منطقيًا مترابطًا، وكذلك ترتيب الموضوعات نفسها داخل الدرس الواحد؛ فمثلًا وبعد التعديلات الجديدة تجد أن الوحدة الثانية والأولى بترتيب معاكس، ففي الوحدة الثانية يتم التعريف بنماذج من الاقترانات ومنها كثيرات الحدود، في حين أن الوحدة الأولى تبحث في العمليات على كثيرات الحدود في جزء منها، ولا يتناسب عنوان الوحدة الأولى (المعادلات والمتباينات) مع المحتوى كاملًا والذي يحوي اقترانات كثيرة الحدود والنسبية.
أما بالنسبة للأنشطة، والوسائل التوضيحية فهو ضعيف جدا في المحتوى الدراسي، ولا يتوفر للطالب والمعلم كجزء مرافق للمحتوى التعليمي، كما لا يوجد مختبر للرياضيات، بل يقتصر الأمر على بعض الوسائل البسيطة للمراحل الأولى في السنوات المدرسية مثل المجسمات، وجداول الضرب، مع أن هذة الوسائل تعد من أساليب تحفيز عملية التفكير، وشد انتباه الطالب وتسهيل عملية التثبت من المعرفة، وإضافة المتعة لعملية التعلم.
ضعف ربط المحتوى بالتكنولوجيا، مع أن وزارة التربية والتعليم حاولت ذلك في ما مضى، لكن لم تكتب لهذه التجربة النجاح المتوقع لأسباب عديدة منها عدم جاهزية الصفوف، وضعف الربط مع المحتوى في الكتاب المقرر بحيث أصبحت توسعًا إضافيًا في وقت ضيق أصلًا، وعدم تدريب المعلمين على ذلك بما يواكب التغيير المنشود.
* أفلاطون











































