فارّون من وجه العدالة

فارّون من وجه العدالة
الرابط المختصر

فارّون من وجه العدالة

في كل مرة ينتشر فيها خبر عن قيام داعشي أو غيره من عصابات التطرف الديني بقتل أبيه أو أمه أو الدفع بأبنائه وبناته حتى لو كانوا أطفالاً إلى الموت، يعتري الكثيرين صدمة وعدم تصوّر لإمكانية حدوث مثل هذا الشذوذ الإنساني. ولو عاصر هؤلاء حقباً مضت أو قرؤوا آثارها لوصلوا إلى الجذر الذي يحوّل الإنسان إلى وحش ليس لديه حتى لغريزة الحيوان.

 

“فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشركليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء”.

 

إنّه عرّاب “فقه الدماء” ومُحَلِّل قتل الأمهات والآباء، ابن تيمية. غدت مقولته هذه بمثابة ترنيمة صعاليك الجهاد المزعومعلى خشبة مذبح ذويهم وبني أوطانهم قرباناً وقربى.

 

هذه الترنيمة لها أصل عند قائليها استنبطوه من أقوال المفسرين لآية سورة المجادلة: “لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْكَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ “، حيث أورد الحافظ بن كثير والقرطبي وغيرهما جملةً من أسباب النزول التي تتمحور في جلّها حول فتك الأبناء بآبائهم “مرضاةً لله”. فمما قيل في هذا الصدد، أنّ هذه الآية نزلت في أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي يقال بأنّه قتل أباه يوم بدر، أو أنّها نزلت في أبو بكر الذي صفع أباه فأسقطه أرضاً لأنه سبّ الرسول، فلما قال له الرسول بأنّ لا يفعل ذلك مرةً أخرى، أجاب؛ بأنّ لو كان السيف بجواره لقتل أباه، وقيل أنّها نزلت في شخص إستأذن الرسول في قتل أباه لأنّ هذا الأخير سخر حينما جاءه بفضلة الماء التي كان يتوضأ بها الرسول ليمسح بها جسده علّه يؤمن… إلى آخر ذلك من قصص لا يختلف رواتها في جوهر فكرة قتل الأبوين أو ضربهما أو الشروع في ذلك لأسباب عقائدية، وإنّما انصب خلافهم على تحديد أيها هي سبب نزول الآية، في المقابل، تناقلت الروايات عن يوم معركة بدر أنّه كان بين جيش قريش ابن لأبي بكر لم يكن قد أسلم بعد، فلما أسلم قال لأبيه: “لقد كنت أراك يوم بدر فأخشى أن يسبق سيفي إليك”، أي أنّه كان يتوارى عن أبيه تجنّباً للمواجهة، فردّ عليه أبو بكر: “أمّا أنا فوالله لو رأيتك لقتلتك”، وهذه القصة الأخيرة يدندن العديد من مشايخ العصر حولها مبهورين ومُبهِرين كيف أنّ الجهاد في سبيل الله مقدّم على كل شيء حتى الأبناء والآباء!

 

 

تكمن المفارقة الحقيقية والمخجلة في محاولات بعض (منتجينالنسخة المُخفَفة “الَّلايت”)“the light version” للدين التي تحاول تبرير تلك الأدبيات أو “وضعها في سياقها” كما يزعمون، إذ أنّ جلّ هؤلاء المنافحون عن فقه التوحّش لا ينكرون قول ابن تيمية ولا أقوال المفسرين عن جواز قتل الوالدين أو على الأقل كراهة ذلك مع عدم تحريمه، وإنما يجادلون في صفة الوالدين المَقصودَين في هذا المقام، فهما بحسب هؤلاء؛ الوالدان اللذان ثبتشركهما، ومن هنا، يخلص هؤلاء الحيارى إلى النتيجة المرجوة ، ألا وهي: (أنّ ما قام ويقوم به بعض الدواعش من قتل لذويهم وأقاربهملا يمت للآية ولا لتفاسيرها بصلة، ذلك أنّ من يدّعي الدواعش كفرهم من هؤلاء الضحايا ليسوا بكفار ومن ثم حرم قتلهم”.

 

 

هذا تصريح ضمني بل صريح بجواز قتل الأبوين إذا كانا “مشركَين شركاً أكبر”! ليثبت هؤلاء عن غير قصد ما ينبغي التبرؤ منه، ألا وهو إفساد الفطرة الإنسانية المبرمجة على محبة وحماية وإيثار بل افتداء البنات والأبناء والآباء، ليصبح قتلهمعملاً يُتَقَرّب به إلى الله ويرنو القتلة رؤيته مُسطَّراً في “صحائفهم” لتُفتَح به لهم أبواب الجنان التي مَهَروها بدماء وأشلاء أقاربهم الأبرياء.

 

 

يدرك المتحرّجون أنّ إضفاء الوصف الطبّي السياسي على هؤلاء المجرمين والادعاء بأنّهم “مختلون”مثلا، لايجدي نفعاً لأنّهذا التشخيص سوف ينسحب على الماضي قبل الحاضر، هذا فضلاً عن أنّه سوف يطرح للنقاش الوقود الفكري الذي غذّى ويُغَذّي هذا “الاختلال” الجماعي المزعوم! لذلك ليسوا كثراً من يستخدمون هذه الحجة التي أفُل نجمها وهوى.

 

 

لا يقتل أحد نفسه ولا ذويه بالأمر أياً كان مصدر هذا الأمر، إلا إذا كان يعتقد أنّه إلاهي المصدر والصدور، فإذا تراكمت الأدلة لتؤكد هذا الاعتقاد وتجيز أو على الأقل لا تحرّم قتل أولي القربى إذا كانوا “كفّارا”، غدى الأمر بسيطاً ومُستمرأً، إذ أن جوهر الفكرة بات مقبولً وربما مأجوراً، دون أن يجدي كثيرَ نفعٍ الاحتجاج بآية “وإن جاهداك على أن تشرك بي فصاحبهما في الدنيا معروفا”، إذ أنّ الذين أجازوا قتل الأقارب “المشركين” والذين وقفوا عند كراهة ذلك فقط، يحفظون هذه الآية ولهم في إثبات أنّ “الجهة منفكة” صولات وجولات.

 

 

إنّ فكراً يجمع مؤسسوه وغالبية أتباعهم على حرمة الدعاء والترحم على الميت المخالف في الدين ولو كان أحد الأبوين؛من غير اليسير عليه أن ينتج منظومة أخلاقية وقيمية تُقدِّسُ الحاية، ولن يرَأتباعه في التسامح إلا ضعفاً وهواناً ما دام مصدر قوّته في توحّشه.

 

 

أقدّر كثيراً محاولات المنافحين عن أدبيات الدين، لكن من الناحية البنيوية والمنهجية مهمتهم تبدو عسيرة جدا، لأنّهم يريدون الجمع بين الضدّان: قداسة رجال يرى فيهم سواد الأمة قدوةً وأبطال بل وهكذا تقدّمهم المناهج بالمطلق دونما قيد، فمن بُشِّرَ بالجَنَّة لا تعتريه هَنَّة، وبين حقيقة أنّهم هم من ابتدع قتل الآباء والأبناء وإرضاء السماء بأنهر من الدماء.

 

 

على من يريد الإصلاح أن يتصالح أولاً مع نفسه، فليقل المخلص الجريء منكم: القتل جريمة نكراء وقتل الأبوين والأقارب أشد نكيرا، ومرتكبوها الأشد خطراً والأكثر طلباً للعدالة، بغض النظر عن الزمان والمكان.