عندما يكون "الأطرش بالزفة" إعلامياً
مع كل ردة فعل شعبية أردنية تتعالى الأصوات المنادية بتطبيق عقوبة الإعدام "فورا" بحق الجاني، وكأنها تحولت من عقوبة إلى انتقام لحظي يمكن ممارسته من قبل الدولة لكون الرعايا لا يستطيعون اتخاذ هذا الفعل بأنفسهم.
لا نستغرب ذلك، في تحليلنا للمشهد _ ولست أناقش عقوبة الإعدام _ فهي مقرة بموجب نص قانوني معمول به، لكن ما يمكن لفت الأنظار إليه، أن كثيرين ممن يطالبون بتنفيذ العقوبة فورا بحق قاتل أمه في حادثة طبربور أو الفاجعة الأخيرة بقصة الطفل السوري في حي النزهة في العاصمة عمان، هم من قادة الرأي، واعلاميون.
ومن عباراتهم المستخدمة "إن شاء الله متى النية ينعدم"، و "الإعدام لمن يستحق اصبحت مطلب شعبي خلصونا"، وكأن منظومة الدولة المدنية وتمكين المؤسسات وضمانات المحاكمات العادلة وأدوار الجهات المختصة وعلاقاتها المتشعبة يمكن شطبها بجرة قلم، تلغي معها كل ادعائاتنا الكاذبة واحتفالاتنا العرمرمية بمنجزنا الوطني والتاريخي خاصة لجهازنا القضائي.
رسائل كهذه من شأنها أن تضعف الثقة بالمؤسسات وأهدافها، ولذا نقول كفو عن الحديث "غير المتخصص، فضرره أكثر من نفعه".
اعتراف الجاني بقتل الطفل لا يعد سببا كافيا لتكونوا قضاة عرفيين فالإعتراف ليس سيد الأدلة، "هذه مقولة خاطئة قانونيا في ظل القانون الجنائي"، فالإعتراف قرينة قانونية قابلة لاثبات العكس، فالإعتراف له أنواع، وحجية، وصيغ، ولمحكمة التمييز الأردنية الموقرة قرارات عديدة في ذلك، وللتدرج القضائي، وآليات الإتهام والدفاع ضرورة. هل اقتنعت ؟ فلتترك القيل والقال إذن.
..........
ما يمكن مناقشه، السؤال : كيف يتفاعل الجمهور مع الخبر، وأي الصيغ والأساليب تؤثر أكثر، وتخلق حالة نقاشية صحية سليمة ؟
طالما كتب الزملاء وأنتجوا تقاريرا متقنة حول التحرش الجنسي بالمرأة والطفل، ولم تلق حين نشرها هذا التفاعل الواسع الذي نلقاه اليوم، في تجربة شخصية، قمت بإعادة نشر مادة حول التحرش بالأطفال أمس، وهي ذات المادة التي نشرت قبل نحو 3 أشهر، بمقارنة لحجم التفاعل والتعليقات شعرت وكأنها وليدة اللحظة.
في الحديث والتأثير فإن الدولةوالمؤسسات الكبرى قادرة على صناعة الحدث، والتأثير يتأتى لخدمة الأهداف بمساندة مؤسسيةتضمن تجانس الخطاب الإعلامي، ووسائل اعلامنا يمكنني أن أصفها بالمؤسسات الكبرى التي تفتقد للتجانس فيما بينها، لتصنع تأثيرا في ظل غياب صناعة الإعلام الهادف والتوعوي الجمعي.
فيما يظل راسخا في أذهان المراقبين أن أي حدث سلبيا كان أم ايجابيا وقعه على أسماع الأردنيين وأعينهم يناقش ليومين أو ثلاثة ثم ينطفيء بريقه.
............
لم أستغرب كما البعض، استضافة الزملاء في اذاعة حياة اف ام للدكتور زغلول النجار للدفاع عن نفسه حول ما حدث في محاضرة أقيمت في مجمع النقابات المهنية. فهو "الداعية العلامة" صاحب العلاقة الوطيدة مع القائمين عليها وله برنامج خاص بث عبر الأثير وحمل على موقع يوتيوب بكامل حلقاته.
ما أستغربته، أن تقوم الإذاعة بإستضافته في نشرة الأخبار، وأن تقوم ببث مجتزأ للحوار عبر صفحة الإذاعة على فيسبوك، دون سماع وجهة النظر الأخرى أو الإشارة إلى محاولة الإتصال بها دون جدوى.
كان يمكن للزملاء أن لا يكونوا حيادين، يمكن تفهم ذلك، لكن من غير المقبول أن يتنازلوا عن مهنيتهم "والإعتذار بإسم الشعب الأردني لضيفهم عما بدر من بعض الحاضرين لمحاضرته"، وهم من هم، ويمتلكون من الخبرات والإمكانات ما يستطيعون من خلالها إستضافة الطرفين أو عقد مناظرة "علمية" بينهم تبث على مسامع الجماهير المتعطشة، بما يثري النقاش ويوسع من ثقافتنا العلمية البحتة، بعيدا عن الإنخراط في معركة الدفاع عن الدين ورموزه، والسماح بوصف المعارضين "بالملاحدة والكفرة والعلمانين، وتأصيل معنى العلمانية"، في نشرة أخبار.
من المحزن فعلاً، أن يذهب جهد الزميلة حنان الكسواني أدراج الرياح بعد نشر تحقيقها المعنون بـ "بورصة الدجل تدر الملايين على تجار الشعوذة"، وتعهدات مدير هيئة الإعلام بملاحقة مخالفي القانون من القائمين على فضائيات تسويق الدجل والنصب والعلاج وتفسير الأحلام والمنشطات الجنسية، فيما تستضيف فضائية الأردن اليوم بعد التحقيق بأسبوع واحد، فضيلة الشيخ ليشرح بإسهاب أساليبه في تفسير الأحلام لزبائنه، في برنامج بدى فيه الزميل مقدم البرنامج كحال الكثيرين منّا "مثل الأطرش بالزفة".