عمّا تسألون؟
ظاهرة تكرار أسئلة المناسبات (رمضان، الحج، العمرة، الأضحية...) التي تُسأَل منذ قرون وأجوبتها التي تُعطى كلما طرحت، ليست وقفاً على المناسبات الإسلامية بل هي موضوع شائع في المناسبات غير الإسلامية، وهذا من حيث المبدأ يعطي مؤشراً غير إيجابي ينم عن وجود فجوة وتباعد مع الآخر يدفع ببعضنا إلى السؤال عن كيفية التصرف بدلاً من الاستجابة إلى نداء الفطرة والنفس. فمع بدايات الاحتفال بأعياد الميلاد (الكرسمس (، تبدأ الأسئلة القديمة الأبدية: "يا شيخ، لي جار نصراني، فهل يجوز أن أهنئه في عيد الميلاد؟ سامحني يا شيخ: لي زميل نصراني في المكتب، وهو يهنئني في رمضان والأعياد، فهل أهنئه في عيده؟ السلام عليكم.... ممكن سؤال..... أنا والله لي أخت في الثانوي ومعظم صديقاتها من النصرانيات، وهي تقوم بزيارتهم في أعيادهم وتحتفل معهم أحيانا بتزيين الشجرة، وحاولت كثيراً أن أنصحها أن تكف عن ذلك، لكنها تتهمني بالتخلف والتطرف، فماذا أفعل يا شيخ، أنا خائفة جداً عليها من يوم القيامة وخائفة أن يصيبها مكروه في الدنيا، أرجوك يا شيخ إنصحنِ".
بعد هذه الأسئلة "الكرسميسية"، الوسواسية القهرية، يبدأ مشايخ المناسبات (أفراح أتراح طهور رقية شفاء طرد الجن فك السحر.... قرّرّرّرّرّب ولَحِّق الموسم!): بفتح حدقة العينين للحظة وكأنهما ستخرجان من الشاشة، ثم لحظة صمت، ثم زفير من الأنف فتنهيدة بغُنّة، ثم مطلع الأغنية من مقام الحجاز ومن قرار (الريه) "يعني.... ال. . . ال. . . ال. . . الواحد سبحان الله، مش عارف كيف يبدأ!"... (صمت)... " والله شيء محزن"... (صمت)... "شيء محزن والله"... (صمت)... "محزن والله هذا الشيء"... (صمت أطول)... (شهيق عميق من الأنف)... (صوت في أعلى جواب نغمة الريه): "يا حسرةً على العباد" (تأوه بهدوء شديد وبصوت مفخم لكنه مكتوم): "آآآآآه"، (فجأة، قوة مفاجئة في نبرة الصوت؛ فورتسيمّو): "ياااااااااااااااا حسرةً على العباد" (العباد الثانية تكاد تكون بصراخ)، ثم ينتقل إلى الكوبليه الأول اللائم الباكي على ما آلت إليه الأمة، ثم الكوبليه الثاني الشاتم واللاعن في شباب الأمة وفتياتها الذين إفتُتِنوا بالغرب "والعياذ بالله"، ثم الكوبليه الثالث الذي يحتوي على أوصاف أهل النار وعذابات القبر وقصة على الماشي عن شخص قلد الغرب واحتفل معهم بأعياد ميلادهم "والعياذو بالله" فكانت نهايته تحت عجلات قطار أو ميتاً في خمارة أو بدلا من نطق الشهادة أثناء سكرات الموت أخذ يغني لشاكيرة، أو إذا لا بد ولشيء من الإثارة (أي: الساسبِنس)، فتلبيس "الزنديق" المزعوم القصة التي تروى منذ السبعينيات في كل قرية ومدينة إسلامية ويدعي الكل حق ملكيتها، وهي عن العاصي الذي أخذه أهله ليدفنوه فكلما حفروا وجدوا ثعبانا وبعد أن حفروا للمرة الثالثة ظهر لهم رجل لابس أبيض في أبيض (وفي بعض الرويات أبيض مقلم أو كروهات) وابتسم وقال لهم: "اتركوه، إحنا راح ندفنه، بس إياكم حد ينظر وراؤه"، فساروا مبتعدين ودفع الفضول أخو الميت الأصغر إلى النظر خلفه فاحترق وجهه!
غاية الأمر، أنّ هذا الفيلم الأبيض والأسود وأياً من كان بطله، يقوم على السيناريو والحوار ذاتهما، حيث يبدأ المؤدي بصوت هادر محذر: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء من دون الله، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، "ها أنتم أولاءِ تحبونهم ولا يحبونكم"، "ولن ترضَ عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم". ثم وقبل أن تنزل شارة النهاية، يضرب صاحبنا المنضدةَ بيده ليرتج الميكروفون قليلاً ثم يصيح: "هل بعد هذا القول قول؟ همممم؟ هل بعد هذا القول قول؟ طييب، اسمع كمان عشان شكلك لسه مش مقتنع: -روى مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، إذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه-".
ليست المشكلة في أنّ تلك النصوص وغيرها كثير؛ تم تفسيرها على نحو خاطئ أو صحيح، أو أنّ ذاك الحديث ضعيف أو أنّه صحيح لكن تم تأويله من غير ذوي اختصاص، المفجع في كل المشهد، أنك تحتاج إلى علم وفقه وجدال بين الفقهاء والعلماء ومقارنة الأدلة ووزن الحجج ثم لا بد لك من فتوى رسمية أو موثوقة؛ فقط لتقوم بعمل فطري إنساني تلقائي ، وهو أن تقول لزميلك أو صديقك أو أستاذك أو معلمتك أو لجيرانك الذين ما تركوا مناسبةً إلا وجاملوك فيها: "كل عام وأنتم بخير"!
كيف لمن سطّروا في أمهات الكتب أبواباً بل أفرد بعضهم كتباً مستقلةً لبحث مسألة تهنئة غير المسلمين في أعيادهم؛ أن يدّعوا أنهم هم من كرّم وصان وأفشى السلام وقبل الآخر واحترم التنوع؟
منذ أيام أطل الشيخ العريفي ليصدح بفهمه الشرعي للتنوع والتعايش حيث قام من خلال تغريدة بل نعقة، على تويتر بتحذير شباب المسلمين من المشاركة في احتفالات أعياد الميلاد لأنها قد تنطوي على "طقوس شركية"!
هذه نتيجة طبيعية في سياق تغدو فيه الحياة بكل تفصيلاتها الصغيرة قبل الكبيرة محلاً للتدارس والتفقه والإفتاء، فمن كيفية تنظيف أسنانك وتنظيف نفسك بعد قضاء الحاجة واختيار اليد التي تريد أن تأكل بها والجنب الذي تنام عليه والرجل التي تخرج بها من مكان ما، إلى ماذا تقول حين تصبح وبماذا تتمتم حين تمسي وماذا تعني أحلامك وأي عمل تتطلبه منك... كلها أمور تحتمل الحلال والحرام والثواب والعقاب أو العتاب كحد أدنى وهي من بعد تحتاج إلى علم وعلماء وفقه وفقهاء، في حين أنها من الممارسات التي لا ينبغي حتى التفكير فيها لأنها من أبجديات الفطرة وأوليات ما خبره الإنسان وتعامل معه.
في حين يقطع الناموس بأن الحياة هي الدين، نصرّ على أن الدين هو الحيا،لتُنسَج الأخيرة على منوال الأول حتى وإن ظلّ عند أباطرته ثابتاً لا يتحول.