حملة 16 قرناً لمكافأة العنف ضد المرأة.
مع كل فعّالية نسوية ومع كل إطلالة ليوم المرأة العالمي، يتحلّق مشايخنا حول الطاولة المستديرة في أحد الفنادق يستمعون قليلاً ويتحدثون كثيراً ثم يصرخون طويلا. "الإسلام كرّم المرأة"، عبارةيستخدمونها على الدوام استصحاباًلسياسة "ما يطلبه المستمعون" التي ينتهجونها منذ وقت غير بعيد. فإذا كان المقام مقام حقوق إنسان وتعزيز لدور المرأة، فإن تلك العبارة وآيات من مثل "وخلق لكم من أنفسكم أزواجا..." وآية "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها"؛ تصبح عنوان الحوار ومدار النقاش، ثم لا بأس من التعريج قليلاً أو كثيراً على السنة ليقتطفوا من رواياتها ما "يطلبه المستمعون"، فمن "استوصوا بالنساء خيرا" إلى "رفقاً بالقوارير" مروراً باستحباب مساعدةالزوج لزوجته في الأعمال المنزلية ، ففي غمرة هذا كله، يبذل أصحابنا قصارى جهدهم لانتقاء النصوص المُناسِبة التي تتطلبها المُناسَبة.
"الإسلام كرّم المرأة"، عبارة يستسهل مشايخ المناسبات إطلاقها وهم يضمرون المعنى الذي ارتضوه ل"التكريم"الذي يكون -من وجهة نظرهم- ب"حفظ المرأة وصونها والرفق بها لأنها هشّة كالقارورة"... إلى آخر ذلك من الممارسات السلطوية الأبوية الوصائية التي ترسّخ دائماً يد الرجل العليا في البيت وخارجه.
"الإسلام كرّم المرأة"، لا يخجل المجتزئون من أئمة اتهام الآخرين بالاجتزاء من التغاضي عن الأحكام الشرعية الثابتة قطعاً المتعلقة ب: ضرب المرأة واعتبارها نصف رجل في الشهادة، وإعطائها نصف نصيب الرجل في الميراث حتى لو كانت هي من أنفق وينفق، وجواز سبيها وبيعها وشرائها بوصفها غنيمةً بعد الغزو، ناهيك عن كونها من مبطلات الصلاة والوضوء، هذا فضلاً عن أنها تشكل النسبة الأعلى من سكان جهنم لأنها "خلقت من ضلع أعوج" ولأنها "عنوان الفتنة" وهي من بعد "ناقصة عقل ودين".
إن أسوأ مخاوف فريق ما يطلبه المستمعون هو اضطرارهم إلى مناقشة هذه النصوص والأحكام وغيرها كثير مما يخجل المرء من ذكره، إلا أنهم إذا اضطروا لذلك لجأوا إلى كرتهم قبل الأخير المتمثل بالتأويلات الطريفة من مثل: "اضربوهنّ أي اصفحوا عنهنّ" "نقص الدين هو الحيض ونقص العقل هو انشغاله بأمور التربية التي هي أرقى ما يقوم به البشر ثم إن العلم أثبت أن عقل المرأة أصغر حجما، فكانت ناقصة عقل مقارنةً بحجم عقل الرجل"، و "شهادتها نصف شهادة الرجل لأنها مسكينة مثقلة بالأعباء والهموم وتنسى كثيرا"! فإذا ما سارت الأمور على عكس المراد وتم ضحد هذه التفسيرات التي لا تحترم عقول الناس وتسخر من مداركهم، لجأ أصحابنا إلى كرتهم الأخير فباشروك بالصياح والاتهام بالانتقاء والاجتزاء ثم إن لم تَرعَوي، فدونك الإيمان ولباسك الزندقة والكفر.
أما في مضمار محافل "حوار الأديان"، فإنّ أصحابنا يعدّون العدّة ويتجهزون بكل ما يلزم قبل شدّ الرحال إلى أروبا أو غيرها حيث تنعقد المؤتمرات وتدور النقاشات، وفي وسط "المتبرجات" من "نساء الفِرِنجة" يجلس صاحبنا وعيناه تدوران وترمقان كل شيء وكأنهما كميرا 24 "بيكسيل"، ثم ما إن يستلم "الميكروفون" حتى يبدأ بأن: "الإسلام دين السلام"، "الإسلام كرّم المرأة"، "انظر إلى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، وما إلى ذلك من الاستشهادات المحفوظة التي لا تحتاج إلى أكثر من تسخين بسيط ثم تُقدّم هنيءً مريءً حسب المناسبة والسياق.
وإذ يقوم صاحبنا بتحضير هذه "الوجبات السريعة"التي باتت من روتين عمله، لا يتوقع أبدا أن ينهض أحض الحضور ويقول له: "لماذا تنتقي وتجتزئ؟ لماذا لا تضع آية التعارف بين الشعوب والقبائل في سياقها وتذكر جانباً من قول المفسرين في نزولها وأنه يتعلق برفض تزويج إحدى القبائل أبا هند؟ أو أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. ثم لماذا لا تقول لنا ما معنى "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم؟ كيف تفهم التقوى؟ هل غير المسلم تقي ويمكن أن يكون عند الله أكرم من المسلم غير التقي؟ هل هذا ينسجم وآية: إن الدين عند الله الإسلام، فمن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"؟ "ثم لماذا يا شيخنا لا تقول لنا كيف نفهم تكريم المرأة من وجهة نظرك وأنت تؤمن بأن زواج المسلم من الكتابية جائز وزواج الكتابي من المسلمة حرام؟ ما الفرق بين المرأة والرجل هنا؟ "، "ثم بالله عليك يا سمح الوجه وضاء الجبين، كيف تكرمون المرأة وتحرمونها من أن ترث أو توّرث من أبنائها وزوجها لمجرد أنها غير مسلمة؟ وتزيدون على ذلك حرمانها من فلذة كبدها في حال طلاقها من زوجها المسلم حيث أنها من وجهة نظركم غير مؤتمنة عليه إذا بلغ السابعة!".
الأمر ليس بالبساطة التي يتخيّلها بعض مشايخنا الذين لم يدركُ بعد أن عهد السبعينيات حيث قناة (3) و (6) تنفردان في الساحة والناس يترقبون مسلسل "الجذور وأبو عواد، وهم على سجيتهم، لا يناقشون ولا يتساءلون. من جهة أخرى، على أصحابنا أن يدركوا أنّ الصياح والاتهامات المعلبة غير منتجة في مقامنا هذا، فإن عدم احترام وعي وعقل المتلقي سوف يدفع بالناس إلى مزيد من التطرف الديني أو التطرف اللا ديني.
حل التناقض المفاهيمي يكمن في تبني منهج علمي حداثي في قراءة وفهم النص الديني، فعوضاً عن طلاء الأحمر والأسود بالأبيض، فليقف المعنيون ويقولون كلمتهم: بأن تلكم النصوص والأحكام يجب أن تقرأ في سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي السائد وقت نزولها، أما اليوم، فإنها ومع احتفاظها بقدسيتها، إلا أنه قد فقد الكثير منها علّة حكمه فباتت غير واجبة التطبيق.
هذه خطوة قد تبدو للبعض مبكرة وغير ناضجة، وقد تكون كذلك، إلا أنها تشكل الركن الرئيس للإصلاح بمعناه الدقيق والعميق. وقد يكون الحل من وجهة نظر البعض؛ أن يبقى كل شيء على ما هو عليه، ويبقى فريق "ما يطلبه المستمعون" يجتزء ويقص ويلصق وكأني به المقصود بآية: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض".
مع خالص دعمي لحملة "16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة"، إلا أنني أعتقد أن الأمر يتطلب أكثر من 16 يوما لمجابهة قرابة 16 قرنا من العنف ضدها.