أردنيٌّ يكتملُ بفلسطين

أردنيٌّ يكتملُ بفلسطين
الرابط المختصر

 

عمّان – القدس: القدس – عمّان.

 

أيهما المنفى؟ أيهما الوطن؟

 

أوليسَ بالاثنتين أكتملُ أنا؟

 

أوليسَ بالاثنتين أزهو على جميع أولئك المرتبكين، المدججين بهزال "الطابو" و"فواتير المياه والكهرباء والضرائب"؟ فلينقعوا أوراقهم ويشربوا ماءها؛ إنّ ظمأهم لا يرتوي. بطونهم جرباء، وعيونهم بيضاء، والوطن يسمو على ورقة بطابع عثماني، أو بريطاني.

 

السؤال الأصعب: ما هي الإمكانية لعودة فلسطين فيَّ كما كانت: دون لوثة الأحذية الصهيونية الغازية التي طرقَت حجارة شوارعها: وقبل أن تعبرها مجنزرات غُزاة التوراة وجنود "يهوه": وبعيداً عن صكوك مسامحة لا تستقيم بين عَمَّانيّ مثلي.. و"أورشليمي" مزعوم مثل نقيضي؟

 

تُطِّلُ الإجابة عن السؤال برأسها، أولاً، من مغاليق اللغة.

 

فالمنفى، إذا أردتُ الاشتقاق مجتهداً، لا ينحصر في حدود نفي الكائن عن المكان وحسب. إنه أيضاً، لا بل أصلاً، وقوع فعل النفي ل "الأمر" برمته – عدم الإقرار بكينونته من حيث المبدأ. تجريده من أوّل وجوده. إبطاله من الحيّز بسائر دلالاته، وتفريغ الأزمنة من أمكنتها المحسوسة في دواخلنا، وأُناسها بما تجادلوا وإيّاها علاقات الحياة. المنفى، والحالة هذه، شَطْبُ تاريخٍ جَيَّاشٌ بالنُّضْج من سيرورة التاريخ. إنه تزوير.

 

فلسطين هي فـيَّ كما كانت.

 

و"عودتها" إلـيَّ لن تكون مثلما هي كاملة كتحقق وجداني: لن تكون، وفقاً لِمْا يحدث، إلّا وطناً ناقصاً أصابوه بالتشوّه.

 

إنّ ما أنقله هنا، والآن، مركّب من المشاعر والانفعال بالسياسة – أو بما ترسمه السياسة على الأرض: أرض فلسطين، وأرض الأردن. لكنها "أرضي أنا"، بمعنى جغرافيتي النفسية الذاتية، ما أحاول رسمها بفرجار التفاعل الواعي مع إجراءات السياسة.

 

فلسطين ستكون منفى لا لأنها افترقت كثيراً عن فلسطين الحلم الذي كتبته أو حلمتُ به، أو لِمْا أوردته في السطور السابقة؛ وإنما لكون مَن سيمهر لي صكَ العودة إليها (كائناً مَن يكون – فلسطينياً أم صهيونياً) سوف يعاملني كأردني طارئ يزورها.. ويعاملها كخريطة وكدليل سياحي تعرّفني على نفسها! ستكون منفى لأنّ عملية استئصال متخلّفة، ومتوحشة، وعنصرية قد جرت لانتزاعها من داخلي، واستبدالها بأخرى لا تليق إلّا بالغرباء عنها – حاملي الكاميرات الذين يرطنون بلغات العالم كلّها، ولكن ليس بلغتها.

 

هكذا يكون التزوير باتجاهيه قد أصابني أنا: إنهم يُزوّرونني!

 

فلسطين ستكون منفى لأنها افترقت كثيراً عن فلسطين "التجربة الكُليّة" التي عشتها؛ فهي لم تكن يوماً بالنسبة لي حلم كتبته، أو حلمتُ به: فالحلم، بهكذا طراز، لا يكون إلّا للذين يأملون بشيء لم يعرفوه بكامل كينونتهم: للذين يحلمون بالفكرة، وفلسطين فـيَّ ككائن ليست فكرة؛ بل جزءٌ أنقصوه مني كشخص.. فلم أكتمل.

 

* * *

 

لم أكتب عن فلسطين كمصدر للحنين. ولم تكن عندي حافزاً للكتابة كفردوس مفقود؛ إذ إنّ نشأتي جَبَلَتْني على نحوٍ أتاحت لي إمكانية ألّا أتعاملَ مع فلسطين إلّا كمدىً منظور: كأرض من تراب، وغبار، وحجارة، وبَشَر، تقع بالقرب من جسدي المادي، وليست كائنة في تلافيف الأحلام، أو تقطيرات التجريد الفكري.

 

إنها هناك، هنا، على مرمى البصر، ترقدُ في بطن حوض الأردن الواحد بضفتيه، وترفع رأسها كُليّ الوضوح المحسوس قبالتي من أعالي القدس. أنا لست في "غيتو" بولندي أجترّ التوراةَ لتُكسبني حيوية الحلم بفلسطين التي لا أعرفها! أنا عِشتها وأعيشها بالدم الحي. أنا من هنا – منها، ونحن لن نكون إلّا فيها كاملةً الآن.. أو بعد بضعة ملايين من أنفاس الرئة.

 

* * *

 

لم يكن الوطن مكاناً محدداً بالجغرافيا ونقاط العبور، وخاصةً "وطني العظيم": جغرافيتي الداخلية التي رسَمَتْها تجربتي مع فلسطين وفيها: ومع الأردن وفيه.

 

إني أتحدّث عني، وليس عن "الخلخلة" التي تميدُ بنا في ميدان السياسة. أو على كم كان صبرُ العدو مديداً حتّى أوْصَلَ بعضنا إلى أنّ خير وقاية منه هو التسليم بترسيم الحدود معه!

 

سأختصر: الوطن عندي ليس معنىً، ليس فكرة، ليس تجريداً.

 

الوطن فـيَّ إحساسٌ بهوية الروح: انغماسٌ في تحقق الكائن: توازنٌ يرتكز على أرض لا يكون الانتماء إليها بخرخشة أوراق الأصل والنَسَب والطابو؛ بل بصمت كلّ من يدأب على حراثتها بالمحبّة، وإعمارها بالمساواة، وتحصينها بتمدين مجتمعها حقاً.

 

بواباتُ "وطني" لا تطرح على "مواطنيها" سؤالَ السَماجة الصرف:

 

"من أين؟".

 

من نصًّ كتبته عام 1994 بعنوان "بالأرضيَن أكتملُ أنا"، ونُشر في مجلة "مشارف"، العدد الأول آب/ أغسطس 1995