المدارس المسيحيّة في فلسطين والأردن: تاريخٌ من التّنوير وصناعة القيادات- أسماءُ بعض أبرز الخرّيجين

الرابط المختصر

على مدى أكثر من خمسة قرونٍ، شكّلَتِ المدارس المسيحيّة في فلسطين والأردن ركيزةً أساسيّةً في التّعليم وتطوير المجتمعات. لم يقتصر دورها على توفير التّعليم الأكاديميّ، بل حملَتْ رسالةً إنسانيّةً وتربويّةً عميقةً، رسَّخَتْ قيم التعدّديّة والانفتاح والتَّميُّز، وأسهمَتْ في صناعة نخبةٍ من القيادات الفكريّة والسّياسيّة والثّقافيّة.

الجذور التّاريخيّة: تراسنطة وبدايات التّعليم المُنظَّم

بدأ التّعليم المسيحيّ المُنظَّم في فلسطين عام 1518 عندما أسَّس الرُّهبان الفرنسيسكان أولى مدارس تراسنطة في القدس وبيت لحم، ولاحقًا في الناصرة. توسَّعتِ التّجربة لتشمل مدرسةً جديدةً في القدس عام 1929، ومن أبرز خرّيجي تراسنطة عكا القاضي سليم جبران، وهو أوّل عربيٍّ مسيحيٍّ يصل إلى عضويّة المحكمة العُليا الإسرائيليّة.
وفي عمّان افتُتِحَتْ تراسنطة عام 1948، لتصبح اليوم شبكةً تضمُّ 15 مدرسةً على ثلاث قارّاتٍ، تستقبل نحو 10 آلاف طالب.
 من أبرز خريجي تراسنطة عمّان رؤساء الوزراء الأردنيّون: علي أبو الراغب (2000-2003)، وهاني الملقي (2016-2018)، وعمر الرزاز (2018-2020)، والعين رجائي المعشر، إضافةً إلى نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة الأسبق مروان المعشر. ومن بين مُعلِّمي تراسنطة البارزين المؤرِّخ الأردنيّ روكس العزيزي.

مدرسة الفرندز: رسالةُ سلامٍ من رام الله

في رام الله، أسَّسَتْ جمعيّة الفرندز (الكويكرز)، وهي طائفةٌ مسيحيّةٌ مُناهضةٌ للحروب، مدرسة الفرندز للبنات عام 1869، ثمَّ مدرسة الفرندز للبنين عام 1918. من بين خرّيجيها شخصيّاتٌ بارزةٌ مثل حنان ميخائيل عشراوي، الأكاديميّة والسّياسيّة الفلسطينيّة وعضو الوفد الفلسطينيّ لمؤتمر مدريد للسّلام، والمحامي رجا شحادة، مؤسِّسٌ مشاركٌ لمُنظّمة الحق الحقوقيّة مع المحامي جوناثان كتاب (خرّيج مطران القدس)، والنّاشط السّياسيّ شارلي شمّاس، ووزير السّياحة وأمين عمّان الأسبق عقل بلتاجي.

الأرمن، السّريان، الأقباط، والإنجيليّون

للجالية الأرمنيّة حضورٌ قديمٌ في القدس منذ القرن الرّابع الميلاديّ، إذ أسَّس الرُّهبان الأرمن مدارس حافظَتْ على الهويّة الثّقافيّة للأرمن. وفي عمّان، أُنشِئَتْ مدرسة يوزباشيان كولبنكيان عام 1962، لكنّها أُغلِقَتْ لاحقًا بسبب قلّة عدد الطُّلّاب. إلى جانبها، تأسَّسَتْ مدارسٌ للأقباط والسّريان والكنائس الإنجيليّة مثل المدرسة النّاصريّة في عمّان والزرقاء، ومدرسة الأمل في بيت جالا.

البطريركيّة اللّاتينيّة: من السّلط إلى شبكةٍ واسعةٍ

عام 1854، أسَّسَتِ البطريركيّة اللّاتينيّة مدارسها الأولى لتغطية مناطق تفتقر إلى التّعليم. واليوم تُدير 13 مدرسةً وروضةً في فلسطين، ومن أبرز خرّيجي مدارس اللّاتين: البطريرك ميشيل صباح (بيت جالا)، والشّاعر فهد أبو خضر (الرينه)، ورئيس بلديّة جنين والخليل وإربد الأسبق عادل زواتي، والمهندس في دار الهندسة سهيل عودة مدانات (رام الله).

أمّا في الأردن، فقد بدأتْ أوّل مدرسةٍ للّاتين في مدينة السّلط عام 1869، لتتحوّل مع الوقت إلى شبكةٍ تضمُّ 42 مدرسةً وروضةً. من أبرز خرّيجيها الموسيقار زيد الديراني، والأب د. مجدي السرياني (الأساسيّ في مادبا والثّانويّة بيت جالا) رئيس محكمة الاستئناف اللّاتينيّة في عمّان. أيضًا من خرّيجي مدارس اللّاتين غادة بطرس رائدة أعمالٍ اجتماعيّةٍ، د. رنا دجاني عالمةٌ، ومُعلّمةٌ، ورائدة أعمالٍ اجتماعيّةٍ، نادية السعودي مهندسةٌ صناعيّةٌ وناشطةٌ في مجال حقوق الإنسان والمرأة. ومن الإنجازات الحديثة أنَّ الطّالب أحمد فايز الجعالين من مدرسة اللّاتين في عمّان حصل على مُعدّل 99.75% في امتحان التوجيهي 2024، فيما حازت الطّالبة غزل علي الدردساوي على المركز الثّاني على مستوى المملكة.

مدارس النّاصرة وحيفا والقدس: قاماتٌ أدبيّةٌ وسياسيّةٌ

  • من مدرسة راهبات عينطورة (1880) تخرَّجَتِ الكاتبة الشّهيرة مي زيادة (1886-1941).
  • مدرسة المسيح الإنجيليّة الأسقفيّة في النّاصرة (1851) شكَّلَتْ نواةً للتّعليم الحديث، فيما تخرّج من مدرسة مار يوحنّا الإنجيليّة في حيفا (1868) السّياسيّ أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة.
  • مدرسة مار يوسف في النّاصرة أنجبَتِ البروفيسور حسام الحايك، عالمٌ في النانو تكنولوجيا.
  • من راهبات الورديّة في القدس تخرَّجتِ الصّحفيّة الرّاحلة شيرين أبو عاقلة (قناة الجزيرة)، والصّحفيّة شروق الأسعد (إذاعة مونت كارلو).
  • كلّيّة مار الياس التّربويّة في عبلين (1962) خرَّجَتِ المحامي والنّائب السّابق أسامة السعدي.
  • أمّا مدرسة المُطران (سانت جورج) في القدس (1899)، فكانَتْ منبعًا للمُفكّر إدوارد سعيد، والشّاعر إبراهيم طوقان، والتّربويّ أحمد سامح الخالدي، والدّبلوماسيّ زكي نسيبة، ورئيس جامعة القدس الأسبق د. سري نسيبة.

المدرسة المعمدانيّة

تأسَّسَتِ المدرسة المعمدانيّة في الناصرة عام 1935، ومن خرّيجيها القاضي توفيق كتيلي، الدُّكتورة حنين جبالي، الصّحفيّة ربى ورور، والمُفكّر عزمي بشارة، مدير المركز العربيّ للأبحاث في الدوحة. وقد انتُخِبَ خرّيجها ومديرها بطرس منصور رئيسًا للتّحالف الإنجيليّ العالميّ.
 في عمّان، افتُتِحَتِ المدرسة المعمدانيّة عام 1974 في الرابية، ودرسَتْ فيها شخصيّاتٌ ملكيّةٌ مثل الأميرة هيا بنت الحسين، والأميرات سمية ورحمة وبديعة بنت الحسن، إضافةً إلى النّائب الحاليّة دينا عوني البشير.

المدارس اللّوثريّة و السالزيان

بدأ التّعليم اللّوثريّ مع مدرسة طاليثا قومي في القدس عام 1851، وانتقلَتْ إلى بيت جالا بعد النّكبة، ثمَّ مدرسة بيت ساحور (1901)، والمدرسة اللّوثريّة في رام الله (1966). ومن خرّيجيها الفنّان التّشكيليّ سليمان منصور، والمُطران منيب يونان، الرّئيس الأسبق للاتّحاد اللّوثريّ العالميّ.
 أمّا مدرسة السالزيان المهنيّة (1859)، فقد خسرَتْ فروعها في يافا والقدس وحيفا بسبب الحروب، لكنّها ازدهرت في بيت لحم والنّاصرة. ومن خرّيجيها المهندس محمد بيطار (مؤسّسة سينمانا)، والمُلحِّن أسامة زهر.

مدرسة شميدت للبنات – القدس

تأسَّسّتْ مدرسة شميدت للبنات عام 1886 برعاية الجمعيّة الألمانيّة للأراضي المُقدّسة. منذ 2008 أصبحت جزءًا من شبكة المدارس الألمانيّة في الخارج، وحصلَتْ على ختم الجودة “مدرسةٌ ألمانيّةٌ مُمتازة” عام 2015. من خرّيجاتها: الشّاعرة سلمى الخضراء الجيوسي، والباحثة بيان نويهض الحوت، والوزيرة السّابقة لميس العلمي، ووزير الخارجيّة الفلسطينيّ الحاليّ فارسين أغابكيان.

مدارس الفرير: من القدس إلى عمّان

افتُتِحَتْ مدرسة الفرير في القدس عام 1876، كأوّل مدرسةٍ كاثوليكيّةٍ لجمعيّة “إخوة الفرير”، وأصبحَتْ مُختلطةً عام 1999. من خرّيجيها الجرّاح الأردنيّ داود حنانيا، والسّياسيّ الفلسطينيّ موسى العلمي، ورجل الأعمال طلال ناصر الدين، والكاتب غسّان كنفاني.
وفي عمّان، افتُتِحَتْ مدرسة الفرير عام 1950 لخدمة اللّاجئين الفلسطينيّين بعد النّكبة، وخرّجَتْ وزير الخارجيّة الأسبق ناصر جودة، الوزير علاء البطاينة، ومدير الأمن العامّ الأسبق حسين المجالي.

التّعليم المسيحيّ: رؤيةٌ شاملةٌ ودمجٌ رائد

تميَّزتِ المدارس المسيحيّة بمناهج حديثةٍ ونهجٍ شموليٍّ يدمج بين الطُّلّاب من مُختلف الخلفيّات. في عمّان تأسَّسَتِ المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة عام 1957، ومن خرّيجيها رئيس الوزراء الأسبق سمير زيد الرفاعي، والنّاشطة النسويّة سلمى النمس، والوزير الأسبق مروان جمعة، والصّحفيّة ندين النمري. كُلّيّة يافا الأرثوذكسيّة أُنشِئَتْ عام 1921، ولكنَّها أُغلِقَتْ بعد وقوع النّكبة عام 1948. وكان قد تخرَّج من المدرسة الأرثوذكسيّة في يافا المُناضل الفلسطينيّ جورج حبش. (تفاصيلٌ عن مدرسة مار متري في القدس القديمة من خلال مقابلةٍ خاصّةٍ لـ ملح الأرض مع الدُّكتور عودة قواس)

 تميُّزٌ وريادة

المدارس المسيحيّة في فلسطين والأردن لم تكُنْ مُجرَّد مؤسَّساتٍ تعليميّةٍ، بل كانت بيئاتٍ حاضنةً للكفاءات، والقيادات المُستقبليّة، والمبادرة للتَّغيير والإصلاح. ففي عام 1975 كانَتِ المدرسة الوطنيّة الأرثوذكسيّة أوّل من أدخل نظام التّعليم المُختلط، وفي عام 2014 أُنشِئَتْ أكاديميّة التّحالُف الأردنيّة المملوكة من كنيسة الاتّحاد المسيحي الإنجيليّة، والّتي أدخلَتْ منذ تأسيسها نظام الدّمج للطّلبة من ذوي الإعاقة مع باقي الطّلبة في بناءٍ صُمِّم وشُيِّد ليكون مُهيَّأ للجميع، الأمر الّذي أصبح الآن قانونًا يهدف إلى تحويل كافّة مدارس الأردن للنّظام الدّامج خلال عشر سنواتٍ.

مدارسٌ صنعَتْ قادة

لم تكُنْ هذه المدارس مُجرّد مؤسَّساتٍ تعليميّةٍ، بل شكَّلَت فضاءاتٍ مُلهمةً لصناعة القيادات الثّقافيّة والسّياسيّة والفكريّة. فقد تميّزَتْ بتخريج نُخبةٍ من رؤساء وزراء، ووزراء، وفنّانين، وقضاة، وأكاديميّين، وصحفيّين، وظلَّتْ تحمل رسالةً إنسانيّةً تستند إلى إرثٍ طويلٍ من الانفتاح والعدالة والتَّميُّز. واليوم، تواصل المدارس المسيحيّة في فلسطين والأردن أداء رسالتها التّربويّة، لتبقى مناراتٍ للعلم والتّنوير في الحاضر والمستقبل.

 المصدر