يُمنَعُ من النَشْر
لطالما كتبتُ وكتب غيري عن رياء البعض ممن يصنفون أنفسهم بـ"علماء الاعتدال" ممن يحاولون الظهور بمظهر حداثي منفتح متقبّل للرأي الآخر، وهم في حقيقتهم ليسوا إلا رجع صدى لكل ما يدّعون رفضه من تطرّف وإقصاء فكري.
آخر تجاربي وليس خاتمتها، كانت خلال الأشهر الماضية وما تزال، حيث قمت بإعداد دراسة بسيطة مقارنة عن حق المرأة في الميراث، وناقشت هذه الدراسة مسائل عدّة تناولها قانون الأحوال الشخصية الأردني من بينها: حكمة توريث الذكر ضعف الأنثى بوصف ذلك أصلٌ عام، ومسألة عدم جواز التوارث بين الأم غير المسلمة وأبنائها وزوجها المسلمين والأثر السلبي التفكيكي لهذا الحكم على الأسرة، وحجب الذكر للأنثى والعكس ليس صحيح، وظاهرة حرمان المرأة من حقها في الميراث على خلفية عادات وتقاليد اجتماعية ظالمة، وأخيراً وليس آخراً، عدم الإنصاف في أحكام الوصية الواجبة في القانون ذاته التي تعطي لأولاد الابن نصيب أبيهم المتوفى حال حياة الجد في حين يحرم أولاد البنت من هذا الحكم، لا لشيء إلاّ لأنها أنثى.
اعتمدت الدراسة منهجية البحث المقارن والتوثيق من صحاح الكتب وعمدة التفاسير وفتاوى دار الإفتاء وما تيسر من كتب وأبحاث ودراسات وتشريعات عربية وإسلامية ونصوص مواثيق حقوق الإنسان ذات العلاقة.
الدراسة تطرح أسئلة جوهرية، الغرض منها فتح مساحات للنقاش والتباحث حول مسائل تفرض نفسها في سياق المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تغيّرت في ظلها الأدوار والمسؤوليات، بحيث أصبحت المرأة تُعيل وتُنفِق وتدير شؤون أسرتها مثلها مثل الرجل أو أكثر منه.
تحاول الدراسة طرح مقاربات تسلّط الضوء على علّة و"حكمة" تفضيل الرجل على المرأة في الميراث بنص قرآني قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وفي هذا الصدد، تستند الدراسة إلى جملة من العوامل التي تشير إلى أن العلّة المتفق عليها بين جمهور العلماء في هذا الشأن المتمثّلة في؛ أنّ الرجل هو المكلّف بالإنفاق ولو كانت الزوجة ميسورة الحال، لم يعد لها وجود واقعاً وعملاً إلى الحدّ الذي يغدو معه إنكار هذا الأمر بمثابة انفصال كليّ عن الواقع.
تطرح الدراسة قياساً يتمثّل في فتوى عمر بن الخطاب بشأن المؤلّفة قلوبهم، حيث أنه قد منعهم نصيبهم من الزكاة في عهد خلافة أبي بكر على الرغم من أن آية الزكاة في سورة التوبة تقول: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة 61). هذا النص لا يحتمل التأويل لشدة وضوحه ولم تسجل كتب الحديث والفقه أي خلاف أو اختلاف على تطبيقه منذ نزوله حتى قام عمر بن الخطاب بوقف العمل به لانتفاء علّته كما تروي كتب التفسير، فقد قام بتمزيق كتاب أبي بكر الذي يطلب منه فيه إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبهم المعتاد من الزكاة وقال لهم:"“لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم ، فان أسلمتم والا السيف بيننا وبينكم”، بعبارة أخرى، اجتهد عمر بن الخطاب ورأى أنّ علّة الحكم لم تعد موجودة ، فأفتى بانتهاء الحكم لانتفاء علّته.
في المقابل، جاء في سورة النساء: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ۚ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" (النساء 11).
المتأمّل في آية سورة النساء يجد أن وجه التشابه بينها وبين آية المؤلفة قلوبهم يكاد يكون متطابقاً: فكلتا الآيتين تتحدثان عن شأن اقتصادي يتعلّق بتوزيع الحصص من أموال التركة وأموال الزكاة، والآيتين قطعيتي الدلالة لأنهما طُبِقَتا منذ أن نزلتا من دون خلاف أو اختلاف، ولم يرد ما يقيد أو يخصص أياً منهما في القرآن ولا في السنة، وأخيراً وليس آخراً، فليس من باب المصادفة أن تنتهي كلتا الآيتين بـ"فريضةً من الله" وبصفَتَي الله "عليماً حكيماً".
تم عقد حلقة نقاشية موثّقة اشترك فيها متخصّصون في العلوم الشرعية الذين قاموا بإبداء ملاحظاتهم واختلافهم مع ما جاء في الدراسة، وبدلاً من أن يقوموا بنقل النقاش إلى العلن وطرح الحجة بالحجة، آثر بعضهم –أؤكد بعضهم- إلا أن يغلّب تكوينه الإقصائي الوصائي على قيمة الاختلاف وحرية الرأي، فراح يحذّر من نشرها، منذراً بـ"غليان شعبي"، وملوّحاً في وجهي بمقالات أفتخر بها وكيف أنها "تمثل دليلاً على عدم مصداقيتي في تبني الطرح المرتكز على الأدبيات الدينية".
لم يخلُ النقاش من الاتهامات المعلّبة بـ"الاجتزاء والانتقاء والأجندات الأجنبية حتى عدم الأيمان.."، مع قليل من البهارات التقليدية بنكهة "عدم الاختصاص وقلّة المعرفة..."، وليت هؤلاء بادروا إلى دعم فكرة نشر الدراسة مصحوبةً بآرائهم وبيان أدلّتهم عليها؛ لأستفيد ويستفيد غيري؛ بدلاً من دفن الرأس في الرمال وتجاهل واقع الحال الذي تستغيث فيه المرأة والأسرة من قانون الأحوال الجائر، الذي يجسد زمناً بعيداً غابر. اللافت للنظر أنّ هؤلاء المتحفظّون لا يتوجسّون من دراسة نقدية أو عدائية أو ما شابه ذلك بل من دراسة تستند في التدليل على سلامة منطقها إلى أدلة شرعية محضة، هذا وبغض النظر عن مدى صواب ما جاء في الدراسة من عدمه، يبيّن درجة الجمود والتجمّد التي نزلت عن الصفر المطلق لمناقشة ما ألفى البعض عليه آباءهم!
هناك ممن ناقشتهم من المختصّين بالعلم الشرعي في ذلك اللقاء وغيره؛ من أسرني بانفتاحه وسمو ملكة أدب الخلاف عنده، الأمر الذي يبعث على شيء من التفاؤل، ومع ذلك، فإنّ أشد ما يؤلم هو؛ رؤية "المحاربات والمحاربين" ممن يدّعون حماية حقوق الإنسان وحقوق المرأة والأسرة؛ يقعون أسرى وسبايا لأشباح جلّادي الفكر وقضاة النوايا.
لن أقول يا خسارة، بل خاب ظنّي والظنّ تارةً يصيب ويخيب تارة.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.