"ولو تعلَّقوا بأستار الكعبة"

"ولو تعلَّقوا بأستار الكعبة"
الرابط المختصر

 

"اذهبُ فأنتم الطلقاء"، عبارةٌ خلّدتها كتب السير ومناهج التربية الإسلامية في دولنا، قالها الرسول لأهل مكة حين "فتحها" وقد أسلمت غالبيتهم وأذعنَ بعضهم وهربت بقيتهم. يقابل هذه العبارة عبارةٌ أخرى تُلخِّصُ حادثةً غايةً في الخطورة انبنت عليها أحكام وترتّبت عليها ممارسات جدلية مستمرة حتى يومنا هذا.

جمَع ابن تيمية في مصنّفه "الصارم المسلول على شاتم الرسول" ما تناقلته كتب الحديث والسير والفتاوى؛ من حيثيات إهدار دم أربعة رجال وامرأتين "يوم فتح مكة"، وكذلك ابن القيم في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" الذي يوجز هذه القصة فيقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لـمَّا كان يَوْمُ فتحِ مكة، قال: "أَمِّنُوا النَّاسَ إلا امْرَأَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ، اقْتُلُوهُم وإنَ وَجَدتْموهُم مُتَعَلِّقينَ بأَسْتَارِ الكَعْبَة".

عبد الله بن خطل على رأس هؤلاء وقد رويَ أنه قد سارع بدخول الحرم وتعلّقَ فعلاً بأستار الكعبة، فجاء صحبٌ إلى الرسول وأخبروه بذلك فقال: "اقتلوه"، فانطلق إليه عمار بن ياسر وسعيد بن حريث، فسبقَ سعيدٌ عمّاراً فبقر بطنه وهو متعلّقٌ بأستار الكعبة.

ثمة عبد الله آخر على قائمة المطلوبين "يوم الفتح"، وهو عبد الله بن أبي السرح؛ أحد أبرز كتبة الوحي، إذّ بينما كان يكتب ما يمليه عليه الرسول من سورة "المؤمنون" وصل إلى الآية: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين..." حتى قوله: "خلقاً آخر"، تعجب عبد الله فقال: "فتبارك الله أحسن الخالقين"، فقال الرسول: "وهكذا أنزِلَت علي"، فما كان منه إلا أن تَشكَّك فارتدّ عن الإسلام. لجأ ابن أبي السرح بعد إهدار دمه إلى بيت أخيه في الرضاعة عثمان بن عفّان فاختبأ عنده، فاصطحبه إلى الرسول وتوسط له سائلاً أن تُقبَلَ بيعتهُ، وبعد إلحاح من عثمان قبِلَ الرسول، حتى إذا انصرفا، لامَ الرسول أصحابهُ الحاضرين لأن أحداً منهم لم يبادر إلى قتله قبل قبول البيعة.

العامل المشترك بين من لم تشملهم عبارة "اذهبُ فأنتم الطلقاء"؛ أنهم قد تعرضوا للدين بالنقد أو تشكَّكوا في النبوة ليستنبط "العلماء" من ذلك أنّ هذا الفعل يستوجب القتل دون استتابة قولاً واحداً.

سبق هذه الحادثة قتْل بعض الأفراد للسبب ذاته، إذ أمر الرسول بقتل كعب بن الأشرف الذي تجسّد قصته المنهجية الدموية في التعاطي مع المخالفين، فقد كان كعباً ينتقد الإسلام ويحرّض عليه بشعره، فأمر الرسول بقتله وتطوّع للقيام بهذه المهمة محمد بن مسلمة الذي استأذن الرسول بأن يحتال على كعبٍ فأذِنَ له. وردت القصة في باب منفرد في صحيح البخاري، وهيَ تنطوي على صورة مروِّعة للغيلة والغدر، حيث احتال ابن مسلمة هذا على كعب بأن أخذ معه أخا كعبٍ في الرضاعة ونفرٌ آخرون، فجاءوا الرجل بحجة أنهم يريدون التزود بالطعام والشراب، حتى إذا هَمَّ بالخروج إليهم، رَجتهُ زوجته ألاّ يفعل وقالت: "إنّ في صوتهم الدم"، فقال: "إنه أخي أبو نائلة، لو وجدني نائماً ما أيقظني"، ذهب معهم مُسَلِّماً آمِناً لهم، فأخذ أخوه بالرضاعة يشم ثوب كعبٍ ثم رأسه لما كان ينبعث منهما من طيب إلى أن اطمأنَ لهم تماماً، فأمسك برأسه وأشار لرفاقه بضرب عنقه فأردوه قتيلاً.

أمّا قصة عصماء بنت مروان التي كانت تنتقد الإسلام وتحرض على المسلمين بشعرها، فلا تقل في تفاصيلها فظاعةً عن سابقتها، إذ قال الرسول: "من لي بها"، فتطوّع رجل من قومها لاغتيالها، فتسلَّلَ إلى بيتها ليلاً وكانت نائمةً وحولها أطفالها نيامٌ وعلى صدرها أحدهم ترضعه، فتحسسها فوجد الرضيع فنحّاه جانباً ثم غرس سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم انصرف وصلّى الصبح فسأله الرسول: "أقتلت بنت مروان"، فأجاب "نعم" فقال الرسول: "لا ينتطح فيها عنزان".

خاتمة هذه القصص، ما رويَ بأسانيد صحيحة عن رجل كفيف قام بوضع المغول (سيف قصير) على صدر أم ولده وهي نائمة ثم اتكأ عليه حتى انغرس في صدرها وماتت، فلما سأله الرسول عن سبب فعلته، أخبره بأنها؛ "كانت به رفيقةً وأنّ له منها ولدان كاللؤلؤتين، إلا أنها كانت تذكر الإسلام والرسول بسوء"، فقال الرسول: "أشهدكم أنّ دمها هدر".

جِماع هذه الأحداث  يشير إلى أنّ السيف هو سلاح الإسلام في مواجهة الكلمة، بالإضافة إلى الحَطّ من شأن المقتول وامتهان كرامته إلى حدّ أنه "لا ينتطح فيه عنزان"!

لا تسامح البتّة إذن مع المخالف ولا خيار سوى الإجهاز عليه/ها بأي طريقة ولو غدراً، الأمر الذي يخالف أحكام الدين نفسها وعادات العرب، فهذه المسألة في ما يبدو من الإزعاج بمكان تصبح معه "الميكيافيلية" خياراً إستراتيجياً وليس مجرد "تكتيك" أو ضرورة.

 إنّ مصنّفات من مثل "الصارم المسلول" الذي يورِد كلمة "القتل" 2469 مرة وكلمة "يُقتَل" 498 مرة وكلمة "قِتال" 181 مرة، أي أنه يذكر القتل ومشتقاته 8 مرات على الأقل في كل صفحة؛ تُشَكّل ولا ريب دستور الجزارين أكلة لحوم البشر من مجموعات الإرهاب التي "تذود" عن موروث يحمل عناصر إدانته في ثناياه، وما مجزرة "شارل إيدّو" منّا ببعيد.

 في الوقت الذي كان العالم العظيم غاليليو غاليلي يَسطِّر مقولته الخالدة: "لست مضطراً بأن أؤمن أنّ الله الذي منحنا الحس والعقل والتفكير؛ هو ذاته الذي يأمرنا أن لا نستخدمها"، كان ابن تيمية وغيره قد سَطَّروا بحدّ السيف ومداد من دم فقه "ولو تعلّقوا بأستار الكعبة".

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك