هوس أوروبي
لا يبدو مفهوماً هذا الهوس الأوروبي بتجريم المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، بدعوى تصريحاته ضد المهاجرين والمسلمين. وكأنما أوروبا نفسها مثلاً، بشقها الرسمي، بعيدة عن هذه الذنوب، أو كأنما أوروبا ليست أوروبا!
من المعروف أن في أوروبا الكثير من المجموعات السياسية اليمينية والمتطرفة، التي تتبنى ما هو أسوأ من أفكار المرشح الجمهوري، ليس تجاه اللاجئين والمسلمين فقط، بل تجاه العالم وشعوب بلدانها نفسها. ولكن هل يجب أن يعمينا هذا عن الحقائق فنتجاهل أن أوروبا الرسمية نفسها، هي اليوم، يمينية ومتطرفة، تجاه هذه المواضيع وسواها، وتبدي عدوانية، لم تغب عنها إلا في العقود القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
أوروبا، تحب أن تجاهر بتصريحاتها شديدة اللهجة والثقة تجاه دونالد ترامب، كما لو أنها لم تحتضن دونالد ترامب الأوروبي (المتطرف نيكولا ساركوزي)، وكأنما ليس لدينا اليوم ديفيد كاميرون وفرانسوا أولاند والزمرة الإسبانية التي توالت بوحي من "أزنار"، ولا كان لدينا بالأمس القريب طوني بلير وحبل كذبه وتدليسه الطويل على على شعبه وشريكه بالكذب؛ مجلس العموم، بشأن حرب متطرفة أودت بحياة عشرات الآلاف وولّدت حروباً وأنجبت منظمات ارهابية لا تزال تتوالد. ذلك الكذب الذي تمت تسويته -لضرورات الحفاظ على كرامة الدولة- بمجرد اعتراف غير مباشر يوحي بالندم، وبما لا يزعجه.
أوروبا التي تستهجن ترامب، كأنما لم تسر وراء الرئيس المهوس دينياً، جورج بوش، مخترع "غوانتانامو" و"أبو غريب". بوش الديني المتطرف الذي يعتقد باعترافاته الموثقة، وبصريح عباراته، إنه لا يفعل شيئاً إلا بعد سماع الأصوات الإلهية التي تطلب إليه أن يفعل ذلك..
ونعرف أن "سماع الأصوات" هي حجة لإثبات الجنون في المحاكم الأميركية، ولكنها في اللحظة الأميركية الفاصلة قادت أوروبا كلها وراء الولايات المتحدة للمساهمة في إبادة شعبين (أفغانستان والعراق)!
أوروبا التي تدعم مجموعات مسلحة، دينية، متطرفة، لا تحلل ولا تحرم في أساليب القتل والتبشيع على المدنيين، ثم تبكي على السلم المدني والحياة الديمقراطية. من اللافت أن عداء أوروبا الاستثنائي، الذي تتجرأ على إظهاره لأول مرة في العلن لمرشح في الانتخابات الأميركية، يصب في اتجاه واحد هو تدعيم موقف المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، كأنما هي نقيض للملياردير الذي تفضحه صراحته.
ما نعرفه هو أن "شجاعة" أوروبا هي بند على مخطط "تنجيح" المرشحة الديمقراطية، وتأتي في سياق حصر السباق الانتخابي بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، على أن تتم شيطنة صاحب الأموال الذي لا تؤثر فيه الرشاوى، ليصبح فوز المرشحة الديمقراطية أكيداً..
وإن نجحت، فالمطلوب من المرشحة الديمقراطية أن تفتح الطريق لقوى وتحالفات إقليمية أن تتصرف؛ أن تموّل وتخوض حروباً بتحالفات لا تتكبد عناءها الولايات المتحدة، ولا تتحمل وزرها أوروبا. إضافة إلى تمويل "ورطة" اللاجئين والهجرة، وفتح المجال أمام إجراءات متطرفة مع اللاجئين تتكفل بها القوى والتحالفات نفسها، ما يعفي أوروبا من الحرج.
وهذه صفقة لن تتم إن نجح ترامب!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.