همنغواي المتوحش

همنغواي المتوحش
الرابط المختصر

يبدو همنغواي، الجبل الأدبي الكبير، أمريكياً تماماً للوهلة الأولى. وبعيداً عن صورة فوكنر الذي هرب إلى اللاوعي في أعماق أميركا. وشتاينبك الذي انهار، بعد صمود، أمام سردية نظام بلاده. وبغض النظر عن المحزون المهزوم دوس باسوس، يبقى همنغواي الأبرز المكمل لصورة أميركا الواثقة بنفسها، العليمة بيومها والمسيطرة على غدها، رغم أنه انتحر ومات، بينما هي ما تزال تنتحر وتنتظر الوفاة!

 

لكن همنغواي وحده، من بينهم، الذي لا يشبه أميركا، فعلاً.

 

إنه جزيرة فيها، وعالمٌ مستقلٌ وسطها. وقد يكون واحداً من الأفراد القليلين في العالم الذي استطاع أن يحمل كل معنى بلاده، من دون أن تتمكن بلاده من تحمل ثقل ولو معنى واحدٍ من معانيه الخاصة. وقد يكون كذلك من القلة القليلة من البشر الذين استطاعوا حماية معناهم الخاص في جزيرة مستقلة، لا يذوب في البر الوطني العام.

 

ربما كانت هذه ثقافة النشأة في كي ويست.

 

كي ويست الجزيرة الأمريكية، التي تبعد عن شاطئ ميامي في فلوريدا مائتي كيلو متر، وعن هافانا الكوبية مائة وسبعين كيلومتراً. وهذا الموقع الذي أكسب همنغواي النزوع إلى البحر والصيد وشده باتجاه كوبا، ربما كان هو نفسه ما جعل منها لاحقاً المحطة الأقرب التي يصلها المهاجرون الكوبيون إلى أميركا.

 

وربما كان هنا مكان لمعنى اسمها!

 

وثمة شيء آخر لافت في كي ويست. إنها مليئة بالنباتات والأشجار الاستوائية والرمال، التي يمكن أن تشد ابنها المتوحش إلى أماكن بعيدة نائية، فيشعر أنها الأصل الذي أنتزع منه مسقط رأسه. وبالمقابل يجعل من البر الأميركي نفسه بمدنه الكبيرة سؤالاً محيراً يثير التحدي من باب الشعور بالاستفزاز.

 

وهي، كذلك، تبدو مثل جزيرة غزتها المنتجعات. كل شوارعها مستقيمة مثل مسطرة، وحيثما اتجهت. لا تلتوي، ولا تعود، وبداياتها تقود من البحر إلى البحر، ومن الشاطئ إلى الشاطئ، في رحلات لا تنتهي بالرضا أو الأسف، ولكن بالرغبة في الانطلاق بعيداً.

 

وبعيداً هذه لم تكن تشمل الاتجاه إلى أميركا، لأن كي ويست نفسها جزيرة تجر وراءها، من جهة فلوريدا، أرخبيلاً من الجزر الصغيرة المتلاصقة، والملتوية مثل ذيل، يكسبها هيئة البقعة الهاربة من البر الأمريكي إلى العالم..

 

وكان همنغواي نفسه هارباً من أميركا، ولم يستقر على أرض فيها سوى كي ويست نفسها.

 

وكي ويست، أيضاً، محدودة المساحة. كانت يوماً ما أكبر مدن فلوريدا وقت كانت الولاية نفسها صغيرة. ولكنها اليوم أصغر من حجم همنغواي نفسه، لا تزيد مساحتها عن تسعة عشر كيلو متراً مربعاً، ولا يتجاوز عدد سكانها الخمس والعشرين ألف نسمة..

 

إنها "ريف" بحري بين الجزر، وضاحية في المعنى البري بين المدن.

 

وهنا، يلفت المرء في سيرة همنغواي، ابن "الريف" البحري، والضاحية بين المدن، أنه كان ينطلق من حلبات الملاكمة إلى البحار وصحارى أفريقيا ليمارس هوسه بالصيد، ويتجه إلى أوروبا، التي تحولت منذ أواخر الثلاثينات الماضية إلى مركز طرفي، ليخوض حروبه، ويشبع نهمه المتوحش بالقتال، وحينما تنتهي الحروب هناك يوجه هوسه نحو مصارعة الثيران وميادين بامبيلونا.

 

وهذا يؤسس لسؤال حول همنغواي نفسه وحول أميركا وحولنا نحن.

 

عمّ يبحث همنغواي المتوحش حينما كان يترك أميركا ومدنها ويخص أطراف العالم بحروبه، والصحارى والبحار بجولات صيده. وعما تبحث أميركا نفسها، فعلاً، حينما تنشر الجيوش، وتشن الحروب خارج حدودها؟ وعما نبحث نحن حينما ننتج داعش، وماذا يعني أننا نرتاح لخيار بديل لا يعطينا أكثر من "حق" أن نصفق ونوكل لقوى دينية قضيتنا التحررية؟

 

هل نجد جواباً عند جاك لندن وفي "ذئب بحاره" و"نداء غابه"!؟

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

 

أضف تعليقك