هل يرفع الغطاء عن حكومة الرفاعي صاحبة ثقة الـ(111 )?

هل يرفع الغطاء عن حكومة الرفاعي صاحبة ثقة الـ(111 )?
الرابط المختصر

الاحتجاجات السلمية المتأججة في طول البلاد وعرضها منذ أن نالت حكومة سمير الرفاعي ثقة تاريخية أقرب إلى التزكية, تعكس احتقانا غير مسبوق فاقمه جنون الأسعار. وفوق ذلك امتعاضا واسعا من طريقة إدارة الشؤون العامة, التخبط في اتخاذ القرارات, تحييد أو إقصاء مراكز قوى تقليدية وسوء قراءة نبض الشارع.

فلا أيدي خفية, قوى داخلية أو خارجية أو "مندسين" وراء حراك الشارع أو تصاعد عدم الرضا حيال سياسات الرفاعي, كما يدّعي أعضاء في الحكومة. ولا هم الإخوان المسلمون أو "بقايا" حزب البعث وغيرهما من القوى السياسية والفعاليات النقابية التي اختارت تهميش دورها خلال الشهور الماضية, ولا هم مواقع الكترونية "مسيئة" أو حفنة إعلاميين "فلتانين يجب ضبّهم". كما لا دخل لما يوصف بصالونات الشغب السياسي في أحياء عمان الراقية يحركّها رجال الحرس القديم ممن يسعون لاستعادة مراكز جلبت لهم النفوذ والحظوة, ولا هم رجالات دولة ووزراء سابقون كانوا يتحكمون بالبلد قبل أن يخرج بعضهم بطريقة تعكس عقلية ثأرية ومزاجية عالية.

لو كان الحال كذلك, لسارعت مرجعيات عليا إلى "توقيف بعضهم" واستدعاء آخرين للطلب منهم وقف الشغب على الحكومة, وعدم عرقلة برامجها الاقتصادية, الاجتماعية والسياسية إكراما لله والوطن والملك, على غرار مراحل مفصلية سابقة. ولما تدخل الملك عبد الله الثاني شخصيا لامتصاص الغضب الشعبي وإجبار الحكومة على اتخاذ إجراءات فورية لتخفيض أسعار سلع أساسية أو إلغاء الضرائب على غيرها, ولما دعا إلى فتح فرص توظيف في الجهاز البيروقراطي أمام جيوش العاطلين عن العمل تحديدا خارج عمان, في محاولة سريعة لتخفيف حدة الآثار السلبية على الأوضاع المعيشية.

الرفاعي تقبل الأوامر الملكية على مضض, فحزمة القرارات الاقتصادية والإدارية الطارئة التي أمر باتخاذها ستكلف الخزينة نحو 160 مليون دينار, كما أنها تتناقض مع نهج "تحرير الاقتصاد" وتقليص العجز والدين العام الذي تجاوز الحدود الآمنة, وهي تخالف جوهر الحماس الذي أبداه الرئيس الذي وعد مذ شكّل حكومته باتخاذ قرارات صعبة وغير شعبية لإنقاذ الاقتصاد الوطني, بدلا من ترحيل الأزمات للأجيال القادمة كما فعل غالبية أسلافه, حسبما قال.

بعد فوزه بالثقة شبه العمياء, تعهد الرئيس مجددا بتغيير أسس دعم السلع قبل أن يتفاجأ الجميع بقنبلة رفع أسعار المحروقات وما تبعه من انفلات أثمان المواد الغذائية والخدمات قبل تدخل القصر.

يبدو أن التدابير الملكية الاستباقية جاءت لاحتواء حالة الاحتقان عشية يوم "الغضب الشعبي" عقب صلاة الجمعة. وهي تعكس في طيّاتها تداركا لتداعيات محتملة على المزاج الشعبي تحاكي الحالة المغاربية, خاصة أن لجانا شعبية تحركت لتنظيم مسيرات سلمية وسط شعارات تطالب برحيل الرفاعي, رفعها محتجون قبل أيام في ذيبان والكرك وغيرها من المجتمعات المهمشة, التي تشكّل العمق الاستراتيجي للموالاة التقليدية.

فالذي حصل في تونس, النظام الأمني والقمعي الأول في العالم العربي, قد يتكرر في دول عربية أخرى. لم يستطع أحد احتواء غضب الشارع الذي شهد احتجاجات واسعة أخذت في بداياتها طابعا اجتماعيا قبل أن تتحول إلى سياسية بامتياز وتفضي إلى فرار الرئيس زين العابدين بن علي من البلاد. الأزمة في تونس مفتوحة على مختلف الاحتمالات بعد أن كسر المحتجون حاجز الخوف إلى غير رجعة, احتجاجا على الجوع والقمع السياسي.

ولم يفد بن علي إقراره في ربع الساعة الأخيرة بأنه يتفهم غضب الجماهير وأن حاشيته غرّرت به لأنها لم تنقل الحقائق كما هي على الأرض.

معلوم أن طبيعة الحركات الجماهيرية على اختلاف تياراتها - دينية, اجتماعية أو قومية - تنشأ عن دوافع ومصالح متصلة بطبيعة الجماهير, والطبقات, وتتغذّى على عوامل الإحباط, تغيير مفاجئ في ظروف الحياة والخوف مما سيحمله المستقبل.

فالجوع كافر أينما وجد, يهدد الأمن المجتمعي ويقضي على كل المنجزات المتحققة.

أردنيا, يفاقم من حدة الجوع تحييد المؤسسات, ضعف الرقابة البرلمانية والسلطة القضائية, فساد وإثراء فاحش ونهب لموارد الدولة وأموالها, أخطاء متراكمة في المسار الاقتصادي واستمرار تعليق الإصلاحات السياسية منذ 1993 لحين حل القضية الفلسطينية, أضف إلى ذلك تكميم أفواه الإعلاميين ومزاعم التدخل الرسمي الناعم في الانتخابات الأخيرة لتكسير الحرس القديم واستبعاد عودة عدد كبير من نواب المجلس الخامس عشر.

التدخل الملكي الأخير ساهم في تخفيف حماس التيارات السياسية والنقابية, التي كانت دائما تقود الحركات الاحتجاجية, فالإخوان المسلمون غابوا عن المسيرات تماشيا مع قرار أحزاب المعارضة والنقابات التي لم تتوصل إلى صيغة مشتركة من مسيرة الجمعة وقرّرت الاعتصام أمام مجلس النواب اليوم الأحد.

فهذه القوى لا تريد على الأرجح قطع شعرة معاوية مع القصر, وهي تجمع على ثوابت الوطن في ظل القيادة الهاشمية وإن عبّرت مرارا عن عدم الرضا حيال السياسات الحكومية.

من هنا عكست غالبية مسيرات الجمعة في العاصمة, إربد, السلط, الزرقاء, مخيم البقعة, الكرك وذيبان حق المواطن في التعبير والاحتجاج حضاريا على تدهور ظروفه المعيشية, لكن شعاراتها شحنت بالمطالبة برحيل الحكومة وحتّى بحل المجلس النيابي صاحب الثقة القياسية التي أشاعت استياء في الشارع.

الإجراءات الأخيرة لا تعدو كونها "حبّة مسكن". فلئن تستطيع تسكين العارض الصحي, لا يمكنها استئصال المرض الذي يحتاج إلى جراحة عاجلة.

اليوم بات واضحا أن حال الغضب الشعبي هنا غير قابل أو مستعد للتراجع دون إجراءات جوهرية تضيق فجوة الثقة وتراجع هيبة الدولة, فأساس هذا الحراك ضنك العيش واستمرار الحكومة في استخدام العلاج الأمني (قوات الدرك) لتسكين العنف المجتمعي ومعاناة المواطن اليومية; أساليب لم يثبت نجاحها في أي عصر من العصور, فالحكومات المتعاقبة لا تعرف إلا سياسة مد يدها في جيوب الناس والتغاضي عن جيوب الفقر والتوتر والعنف المتزايد.

المطلوب اليوم وقفة جادة لمراجعة ايجابيات وسلبيات السياسات التي طبقت خلال العقد الماضي بهدف تحديث الأردن في ظل انعدام توافق وطني حيال شكل الأردن الحديث وهويته, واستمرار الصراع بين ساسة يمثلون الخط التقليدي المحافظ والليبرالية في بعدها الاقتصادي, في بلد تعود سكانه على المقاربة الريعية.

استمرار سياسة التسكين وترحيل الأزمات لم تعد تجدي, وكذلك سرعة رحيل الحكومات, وفي البال تكليف ثمانية رؤساء حكومات في عشرية عبد الله الثاني تمثل مدارس سياسية, لكن دون تغيير في النهج.

لكن قبل ذلك يجب الإقرار بأن الأردن يواجه أزمة داخلية سياسية-اجتماعية-اقتصادية وإدارية. الشفافية, المصارحة, وإطلاق الحريات العامة والانفتاح السياسي والتحاور مع مكونات المجتمع كافة مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى, فهي صمام الأمان الحقيقي للدولة المجتمع, خاصة بعد درس تونس الأخير.

المطلوب تحديث سياسات إدارة الدولة لضمان الأمن والاستقرار والنماء.

ولن يأتي الحل برحيل جكومة الرفاعي واستبدالها ضمن آليات تدوير المقاعد ذاتها, ولا يأتي عبر الإصرار على مأسسة نظام الشراكة بين السلطات التنفيذية, التشريعية, القضائية والإعلام, إنما من خلال احترام الدستور وفصل السلطات.

صمام الأمان لا يأتي من خلال تفصيل مجلس نيابي مطواع ينتج عن دوائر وهمية, أو بفوز رئيسه بتزكية وحصول الحكومة على ثقة بشبه تزكية أو عبر إجبار غالبية وسائل الإعلام الخاص على النوم في خندق الإعلام الرسمي الموالي للحكومة ولا للوطن.

الحكومات تأتي وتذهب, لكن الوطن والنظام من الثوابت.

تكسير هيبة النيابي لا تفيد احدا. واستراتيجيات التدخل المباشر في انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات من خلال إدخال ملثمين أو إقحام مؤيدين للحكومة في مظاهرات الكرك لم تعد تجدي, حال غياب دولة المواطنة والقانون والعدالة.

ثمّة خطوات عاجلة يقترحها ساسة, حزبيون ورجال دولة سابقون للخروج من عنق الزجاجة:

- برنامج تحديث متكامل وتوصيات عملية على يد لجنة ملكية مستقلة ومحايدة برئاسة شخصيات وطنية متعددة الخلفيات, لديها كفاءة تنفيذية عالية لمعالجة التوتر الشامل على المسارات كافة عبر توصيات جريئة تطبق ضمن محطات زمنية محددة.

- تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة رئيس يتمتع بخبرة تنفيذية في إدارة الدولة, قادرة على الحديث مع الشارع وليس فقط مع النخب والخارج.

- إيجاد آلية فاعلة للتعامل مع المؤسسات المستقلة التي نمت خلال السنوات الماضية. فلا يكفي أن يقول وزير المالية إن موازنات هذه المؤسسات ستخضع لديوان المحاسبة, بل يجب دمج غالبيتها أو إدخالها ضمن وزارات قائمة.

- فك التقاء المصالح بين الحكومة ورموز برلمانية سابقة وجديدة ممن اختارت الهرولة صوب الدوار الرابع بدلا من احترام دور سلطته لاستعادة هيبة مجلس النواب.

- الاقرار بأن تحرك الشارع عفوي مصلحي وليس مدفوعا من جهات داخلية وخارجية لا تحب الخير للبلد.

تخفيض ضريبة المبيعات وتطبيق ضريبة الدخل بطريقة تصاعدية وتجريم عملية التهرب الضريبي الواسع.

محاربة الفساد والمفسدين من القاعدة إلى القمة وعدم الاكتفاء بتحويل ملف الرشاوى الصغيرة أو الإعلان عن قيام هيئة مكافحة الفساد باستدعاء أربع شركات لها ارتباط مع مؤسسة "موارد" للتحقيق معها بشأن أنشطة مشبوهة.

تسهيل حق الحصول على المعلومات وتشجيع السلطة الرابعة على القيام بدورها الرقابي بدلا من مواصلة مسلسل التصفيق للأخطاء.

تأسيس مجلس الأمن القومي برئاسة الملك لضبط إيقاع مؤسسات الدولة على وتر استراتيجي في مواجهة سيل تحديات مصيرية. دور المجلس المنشود تقديم النصح والإرشاد لرأس الدولة -- أي أن يكون بمثابة "مخ مركزي للدولة" يتحمل مسؤولية التخطيط بعيد المدى ورسم الاستراتيجيات في مختلف القطاعات. خططه ملزمة للحكومات العابرة في السياسة, الاقتصاد وصولا إلى مكافحة الإرهاب وبناء السلام. فمراجعة فرضيات السياسة الأردنية وبناء تصورات جديدة تستجيب للمتغيرات تحتاج لفريق سياسي-امني متكامل في الدولة يتشارك في رسم التصورات العليا.

في حال بناء استراتيجيات واضحة ورسم خطوط حمراء جديدة ضمن رؤية جلية, يستطيع القطار استكمال مسيرته حتى لو تبدّلت الشخوص الرئيسية في قمرة القيادة.

وبعكس ذلك سيستمر التخبط في السياسات وستخسر الدولة ومكوناتها كافة

العرب اليوم