هل نحتاج إلى دفع "الكُلفة"؟!

هل نحتاج إلى دفع "الكُلفة"؟!
الرابط المختصر

هنالك تيار رسمي يتعامل مع الحراك السياسي الداخلي وموجة الديمقراطية العربية بالعقلية التقليدية ذاتها التي تعتمد "اللعبة الصفرية"، أي أنّ ما يكسبه الشعب تخسره الدولة! وهي بالضرورة نظرية كارثية خاطئة، ومردودها في هذه اللحظة التاريخية – تحديداً- كارثي.

لا يجوز أن نخشى من الحديث عن "مرحلة جديدة" ومسار مختلف ونقطة تحول في الحياة السياسية، والعمل على تجديد النظام السياسي بصورة فاعلة وسريعة تعتمد على مبدأ "الأمة مصدر السلطات"، وإدارة جديدة للشأن العام مغايرة تماماً لما ساد خلال المرحلة الماضية.

نحن بحاجة إلى روح جديدة مختلفة تقنع المواطنين أنّنا أمام حركة إصلاح حقيقية، لا مجال فيها بعد اليوم إلاّ لدولة القانون وتكافؤ الفرص والشفافية، وتداول السلطة والتعددية السياسية وحرمة الحريات العامة وتقديس حقوق الإنسان، واجتثاث الفساد، وترسيم صيغة جديدة محددة على قاعدة المواطنة بين الدولة والفرد والمجتمع.

المرحلة الجديدة تقتضي ردّ الاعتبار لمفهوم العدالة الاجتماعية في البرنامج الاقتصادي، ليس بالنكوص إلى وراء، بل بمواجهة الفجوة التنموية والخدماتية والتركيز على "المدخلات" التي تصنع "البنية التحتية" لمفهوم المواطنة، مثل إنقاذ التعليم الحكومي (المداس والجامعات)، الخدمات الصحية، نقل التنمية إلى المحافظات، والخروج من لعبة "شراء الولاءات" الضيقة والتلاعب بالقيم الوطنية الجامعة، ومنطق كوتات "الأقل حظاً" والعطايا والمنح، فهذه لا يجوز أن تباع اليوم للناس، وليست بديلاً عن الإصلاح الحقيقي الجذري.

في خضم هذا التفكير، فإنّ تكريس استقلالية المؤسسات وشفافيتها، وخضوعها لمعايير فقط مهنية ومؤسسية وقانونية، سواء الجامعات أو الإعلام أو المجتمع المدني، ومنع أي تدخلات أو وصاية رسمية عليها، بمثابة شرط أساسي لاستعادة ثقة المواطنين.

هذه الاعتبارات وقفت وراء إصرار أعضاء لجنة الحوار الوطني على عدم اختزال مفهوم الإصلاح السياسي بقانوني الانتخاب والأحزاب، وربط استمرار عدد كبير منهم وجوده بتحرير يدي اللجنة من أي قيود، بما في ذلك "التعديلات الدستورية" المطلوبة لحماية الحياة السياسية والنيابية من تغول سلطة على أخرى.

لجنة الحوار ليست بديلاً من الحراك الشعبي، بل هي خطٌ موازٍ له، في محاولة لبناء التفاهمات الوطنية العامة على أجندة الإصلاح السياسي وأولوياته ومساراته المقترحة، وهي تحتاج إلى "قوة الدفع الشعبي" لمواجهة التيارات والمجموعات التي ما تزال تصر على "فرملة" مسار الإصلاح، من دون أن تعلم أنّها بذلك تذهب بالدولة إلى "مأزق أكبر"، وتعزز فجوة المصداقية والثقة.

الخيار الوحيد الذي يمكن أن يقنع الشارع اليوم، ويحول دون الحديث عن سيناريوهات غير مرغوبة ولا يريدها أحد، هو إصلاح بنيوي حقيقي يعيد هيكلة المعادلة السياسية، تقوم على أرضية صلبة، وليست مطّاطة، تحدد بصورة دقيقة ومحددة، الأسس والقواعد التي تقودنا جميعاً إلى واقع جديد وثقافة ومفاهيم جديدة، وسياسات عقلانية لا تحتاج إلى "فك ألغاز" ولا "حل الأحاجي" حتى نفهمها، ولا تسريبات متضاربة حول مواقف الجهات المختلفة والمؤسسات الرسمية، طالما هنالك مؤسسات دستورية تمتلك مسؤولياتها ومهماتها كاملة.

المواطنون اليوم لن يشتروا وعوداً ولا نوايا حسنة، ولن يراهنوا على خطوات محدودة، أو بيع الكلام، فما يمكن أن يسير بنا إلى برّ الأمان فوراً وعاجلاً هي إرادة سياسية حاسمة بدخول عصر الديمقراطيات العربية، من دون الحاجة إلى دفع "كُلفةٍ" كبيرة رسمياً أو شعبياً.

الغد