هل عملتَ مع قائد واثق؟

هل عملتَ مع قائد واثق؟
الرابط المختصر

 

لا أنسى ما حصل معي في أول أسبوع عمل. كانت تلك وظيفتي الأولى للعمل في مؤسسة دولية ضخمة زاد عدد موظفيها عن 350 ألف شخص حول العالم. وقد حصلتُ على فرصة العمل هذه عقب إنجاز مشروع تخرجي الجامعي في هندسة الكمبيوتر ضمن أحد أقسامهم.

 

قضيتُ أول يومين في العمل هناك أتعرف على مشاريع وبرامج الشركة. وطلبني حينها مدير الفرع الإقليمي للاجتماع معه. تخوّفت من هذا الطلب، إذ لم يكن أول اجتماع لي مع ذلك المدير فحسب، بل هو في الحقيقة أول اجتماع لي مع أي مدير في حياتي. وبوصفي طالباً حديث التخرج تجهزت للإجابة عن أية أسئلة قد يسألها كي لا أفوت فرصة الظهور كموظف مثالي.

 

التقيته وكانت ملامحة ايجابية مع ثقة بنفسه ملأًت قاعة الاجتماع، وبدا جلياً مقدار خبراته واطلاعه على الأمور خلال حديثه، أخبرني بكل جدية عن المسؤوليات المطلوبة مني ومعايير الأداء والإنجاز المتوقعة، فأكدت له أنني سأكون عند حسن ظنه. لكن عباراته الأخيرة لي هي أكثر ما فاجأني. قال: "أنت تعلم أنني مديرك، ومطلوب منك الالتزام بتعليماتي". هززت رأسي سريعاً بالموافقة وانقبض قلبي قليلاً. أكمل قائلاً: "أريدك أن تعلم أن لك الحق بالاختلاف معي بالرأي".

 

صمتُّ أنا ليتابع هو حديثه: "وإن اختلفنا، ولم تقتنع برأيي، أود أن تعلم أن لك الحق برفع الشكوى إلى مديري، وسيصلك رده عليك، وإن لم يعجبك رد مديري فلك الحق أن ترفع شكواك إلى مدير مديري، وسيصلك رده أيضاً. أريد أن تعلم أن لك الحق بنهاية الأمر أن تتبع التسلسل الإداري إلى أن ترفع شكواك إلى المدير العام الدولي للشركة، وسيأخذ رده عليك بعض الوقت، ولن يهمل طلبك. أردت أن تعرف منذ بداية العمل معنا أن لك هذا الحق وأنني أدعمه، وأعتقد أننا هنا يمكن أن ننهي اجتماعنا".

 

تركته وذهبت إلى مكتبي، وبعدها مرت الأيام وعقدنا اجتماعات كثيرة، وصار لي أن اطلع على أنظمة عمل وتعليمات كثيرة. وخلال عمله، حقق ذلك المدير لشركته إنجازات جلبت له احترام الجميع، ولم ينكر أحد تأثير مهاراته الفنية واجتهاده الفائق، وكنا تعلم جميعنا أنه قائد كفؤ، وسلاحه الأول تمثّل بالقيم الأخلاقية للقيادة.

 

ثم مرّت سنون أخرى وتنقلت بمؤسسات أخرى والتقيت بمسؤولين ومدراء عديدين. لا شك أنه كان لكل مؤسسة مراجعها بخصوص سياسات العمل وأخلاقياته. بالحقيقة لا أذكر منها الآن أي شيء، بل لم تحتفظ ذاكرتي بتفاصيل لآلاف الاجتماعات مع المدراء والفرق والموظفين، لكنني لن أنسى ما قاله لي ذلك القائد الواثق الكفؤ. كان بإمكانه عدم التطرق بتاتاً لموضوع حقي في الاختلاف، أو تأخير الحديث لأشهر، أو حتى الاكتفاء باطلاعي على السياسات المكتوبة.

 

تعلمت مبكراً أن القائد الناجح يبني حوله فريقاً من العارفين والمتمكنين وليس المذعورين من هيبة مصطنعة، وأن التنوع والاختلاف بالرأي هو حق للجميع، بلا خوف من انتقام المسؤول، بل تعضيدٌ لعمل الفريق الواحد.

 

 

وإذ نلاحظ هذه الفترة جهوداً ضرورية ومهمة لتطوير مدونات حول السلوك الوظيفي للمؤسسات، ندرك أن الأفراد مهما كانوا، موظفين أو طلاباً أو نواباً أو أساتذة أو أعضاءً أو فرقاً أو غيرهم، قد يقرؤون تلك المدونات لكنهم سيتأثرون، في الغالب، بسلوك قائد مؤسستهم، هو المؤثر الأعظم، وإليه يجب أن توجّه دوماً المسؤولية والمساءلة الأكبر.

 

باسل صليبا: مستشار وخبير متقدم في مجال التقييم والتطوير وبناء القدرات للقيادات والمشاريع والمؤسسات.

[email protected]

أضف تعليقك