تحتاج الاجابة على سؤال: لماذا لم نبدأ المراجعات بعد الى قراءات عميقة وتشريحية لمجمل خياراتنا واجتهاداتنا السياسية في المرحلة الماضية ، واعتقد ان اللحظة الراهنة - بكل ما تحمله من مؤشرات واعتبارات - أصبحت مناسبة جدا لطرح ما يلزم من اجابات على ما حدث.. وما يفترض ان يحدث في المرحلة القادمة.
حتى الآن ما زالت الردود تقتصر على الاجراءات والمبادرات "التطمينية" واسباب ذلك كثيرة ومعروفة ، اهمها ان ثمة اختلافاً في رؤيتنا للحالة المحلية ، سواء في تحديد احتياجاتها او تطلعاتها ، او في المضامين والادوات اللازمة للتعامل معها. بمعنى ان سؤال الخطوة الاولى ما زال ملتبساً ، فالبعض يرى ان بداية الاصلاح يفترض ان تنطلق من ارضية اقتصادية والبعض يرى ان دفع قطار الاصلاح السياسي اولوية ، فيما يرى آخرون ان المشكلة في كفاءة الاشخاص لا في البرامج ، او في المقدرات والامكانيات لا في الخيارات ، او في تحديات الخارج الضاغطة لا في اوضاع الداخل التي يمكن ترتيبها لو كانت "المناخات" الخارجية تشجع على ذلك.
الآن.. يفترض ان نتجاوز جدل "المراجعات" والقراءات وان نحدد فعلاً ماذا نريد ، وكيف يمكن ان نحقق ما نريد ، وهذا كله يحتاج الى اطلاق مبادرات خلاقة تطوي صفحة الماضي ، وتتعامل بمنطق جديد مع قضايانا الداخلية ، وتكشف - بصراحة - عن مواقع الخطأ لمعالجته ومنع تكراره ، وعن مواقع الصواب للبناء عليه لا لطلائه ، وتجيب - بلا مواربة - عن اسئلة الناس واستفهاماتهم لتمطئنهم على بلدهم وعلى مستقبلهم ايضاً.
لا يجرح بلدنا ابدا ولا يقلل من قيمة انجازنا ان نعترف بأننا اخطأنا ، وبأن تجربتنا قد تعرضت لاصابات هنا أو "رضوض" هناك ، وان اعادتها الى سكة "السلامة" خيار وقرار ، لا مجرد اجراءات فقط ، واذا كان ثمة وصفات قد ثبت فشلها ، فان ثمة وصفات اخرى يمكن أن تجرّب وان تنجح متى أشرف على تنفيذها من نثق بكفاءتهم وخبرتهم ، فالاوطان - في العادة - لا تتوقف عند برنامج أو شخص أو جهة ، وانما تحتاج الى مشاركة الجميع ، والى الثقة بالجميع ، والى البحث عن البدائل الافضل للخروج من مشكلاتها والتباساتها واعادة العافية الى أوصالها المختلفة.
نرجو ان يكون هذا العام "عاما" للمراجعات ، وللمصارحات والمصالحات ، فقد خسرنا على مدى السنوات الماضية فرصاً كثيرة لترسيخ تجربتنا في الحوار والمشاركة والبناء ، وعلينا ان نستثمر هذه الفرصة الجديدة لانتاج تجربة تبعث الحياة في اجسادنا ، والدماء في شرايينا ، والهمة والامل في صدور اجيالنا.
واعتقد اننا لا نعدم المرتكزات ولا الارادات ولا المقررات لاطلاق قطار "اصلاحنا" الذي تعطل ، أو لتطويق "جدلنا" الذي توسع ، أو للرد على اسئلتنا المعلقة التي تصاعدت.
لدينا عشرات "الوصفات" للخروج من هذه المرحلة ، ولدينا عشرات الاستراتيجيات والبرامج ، ولدينا ما يلزم من ارادة ورغبة لرؤية بلدنا نموذجاً لغيره من البلدان ، لكن ذلك كله لا يكفي اذا ما لم نمسك بلحظة "التغيير" ونقودها الى حيث نريد.. واذا لم نلتقط ذبذبات المجتمع ونوجهها الى السكة الآمنة.. واعتقد اننا بدأنا فعلا ، وعلينا ان ننطلق وألا نلتفت - أبداً - الى الوراء.
الدستور