نواب يبحثون عن شعبية زائفة في الوقت الضائع
كشف ماراثون جلسات الثقة عيوب التعديلات التجميلية على قانون الانتخاب، والتي سوّقتها مراكز قوى، عبر كتائب الإعلام المرعوب، على أنها قفزة نوعية في مسار الإصلاح السياسي، وعصا سحرية لحل مشاكل البلاد والعباد. وقد استفادت في ترويج أدوات الديمقراطية المنقوصة من أجواء القلق الشعبي من الفوضى السياسية في تونس ومصر وغيرهما من بلاد الصحوة والتحول الديمقراطي.
لكن الثلج ذاب بسرعة، وانكشف المستور.
مجلس النواب ليس هو العنوان الصحيح في هذه المرحلة المفصلية لوضع البلاد على سكّة الإصلاح في زمن الربيع الأردني، ولا يمكنه المساهمة في إنقاذ البلاد من حال التدهور السريع سياسيا واقتصاديا، أو استعادة هيبة البرلمان من خلال أداء نيابي راق ومميز يفضي تدريجيا إلى فصل السلطات.
مناقشات الثقة أظهرت أن مجلس نوابنا الجديد يضم 150 قائدا. فغالبية الأعضاء -حال معظم الكتل المشرذمة- سيخفقون في إعانة القصر على إنجاح تجربة "الحكومة البرلمانية" السابقة لأوانها، في غياب أحزاب سياسية لها برامج واضحة، ومقاطعة التيار الإسلامي المنظم.
لن يساعد غالبية النواب على إيجاد بدائل لمعالجة الوضع الاقتصادي والسياسي، لأن ذلك سيضع الحكومة والمجلس في وضع حرج مع الشارع المحبط، وسيضطر الرئيس إلى مواصلة مسلسل عقد الصفقات مع الكتل لحماية الحكومة من شر النواب.
نوابنا الكرام أضاعوا الأشهر الثلاثة الأولى من عمر المجلس العتيد بدون إنجازات تذكر. ومن يتصرف بهذه الطريقة في هكذا ظروف داخلية وإقليمية صعبة، لا مانع لديه من إضاعة المزيد من الوقت مستقبلا ضمن لعبة أكبر اسمها "إدارة الفوضى"، و"تجارة تبادل الاتهامات والبحث عن أكباش فداء ومشاجب".
لمن راقب جلسات الثقة، جاءت الصدمة الأولى من رموز التيار المحافظ من طبقة أبناء الدولة، الذين قادوا معارضة حكومة عبدالله النسور لأسباب شخصية، مختبئين خلف عباءة المطالبة بإصلاحات لم يؤمنوا بها أصلا.
وقد نجح هؤلاء في اختطاف مشهد مناقشات الثقة وأجواء المجلس في غياب المعارضة الممنهجة، وحجبوا الثقة. لكنهم نسوا أنهم جزء من المأزق الذي تعيشه البلاد اليوم؛ تناسوا أنهم فقدوا مصداقيتهم عندما كانوا في موقع السلطة، وتحركوا بناء على أوامر كانت تردهم من المراكز التي أوصلتهم إلى مقاعدهم. وآخر مهامهم كانت تمرير خديعة الإصلاح السياسي، عبر تشويه قانون الانتخاب، وطي غالبية ملفات الفساد، وتهديد وضرب نواب تحدّوا أوامرهم. وهم لم يخجلوا عندما كشفهم غالبية زملائهم الجدد، لأنهم تعودوا أن مصلحتهم فوق مصلحة الأردن.
غالبية النواب تحدثوا في كل شيء، إلا الحلول المطلوبة.
طالبوا الرئيس بتقمص دور النائب لساعة واحدة ليحاكم هو الحكومة، ويقرر ما إذا كان سيمنحها الثقة أو يحجبها، بناء على خبرة الأشهر الماضية.
طالبوه بسن قانون انتخاب عصري، وفتح ملفات الفساد والمفسدين بصورة جدية، واسترداد الأموال المنهوبة، وعدم رفع تعرفة الكهرباء، وزيادة الضرائب لإنقاذ عجز الموازنة. وحاصروه بمطالب خدمية، مثل شق طرق، وتشغيل الباحثين عن عمل، و"حماية هوية الدولة الأردنية المهددة".
شكرا للنواب الأفاضل ممثلي الشعب الذي يمول ميزانيتهم، ويتوقع منهم ممارسة دورهم الرقابي والتشريعي بقدر من الموضوعية، بعد أن تجشموا عناء المشاركة في العرس الديمقراطي.
شكرا لأنكم تجاهلتم أهمية الوقت منذ أدائكم القسم الدستوري. بدايات الإخفاق تكشفت مع انتخابات رئاسة المجلس واللجان، ومن ثم مناقشات تحديد مواصفات شخصية رئيس وزراء أول "حكومة برلمانية". ثم اختزلتم الأردن كله بتسمية مرشحين لمنصب الرئيس من أدراج الماضي: د. عبدالله النسور رئيس الحكومة التي أشرفت على الانتخابات؛ ونائبه د. عوض خليفات.
وانشغلتم بجولة جديدة للتفاوض بشأن آلية تشكيل الحكومة، وأصررتم على إدخال نواب للحكومة الجديدة لتخريب ما تبقى من بيروقراطية الدولة المهترئة، وهيبتها المتآكلة أصلا.
وفي الأثناء، كرّستم جهودكم لترتيب خمس جاهات بروتوكولية: لإرجاع نائب "حرد" لأن حزبه خسر الانتخابات، أو لحل خلافات عشائرية كادت أن تتطور لما هو أخطر، أو لمنع نائب من إقامة خيمة داخل باحة المجلس للاعتراض على إعادة تسمية د. النسور رئيسا للحكومة الجديدة.
نجحتم في تضييق الخناق على تحركات المصورين لكي لا يكشفوا فضائح أخرى، بعد اقتناصهم صورة "للمسدس المزعوم" تحت القبة. أبدعتم في لوم الإعلام على تخريب صورة مجلسكم أمام الرأي العام. أفلحتم في "غمغمة" جهود إقرار قوانين مهمة، مثل الكسب غير المشروع، وتعديلات الضمان الاجتماعي، وضريبة الدخل، والموازنة المؤقتة، والمالكين والمستأجرين؛ فيما انحسر نتاجكم بإقرار قانون نقابة للوعظ والإرشاد، وثلاثة قوانين معدلة أرسلت لمجلس الأعيان.
فشلتم في الامتحان الأول، وهو تعديل النظام الداخلي لمجلسكم، كان يفترض أن يعطيه وزنا، ويهب كتله بعض الأسنان والنفوذ.
أجواء الأيام الماضية التي أضاعها غالبية نوابنا في إلقاء خطب رنانة، وتجريح ساخن مسّ شخص الرئيس وطاقمه "الرشيق"، قبل منحه ثقة لقاء تنازلات وصفقات مع كتلتي الوسط الإسلامي ووطن، أعادتنا إلى مشهد سياسي يبعث على الإحباط مع دخول الأردن عين الإعصار الإقليمي.
أعدتم الأجواء إلى الاحتقان، بينما يلح السؤال حول وجهة المستقبل. وأعطيتم وقودا جديدا لقوى الحراك التي لم تخمد.
وباستثناء كلمات لا تتعدى أصابع اليد؛ حملت مضمونا سياسيا مختلفا، وقدمت بدايات حلول كانت في نظر البعض إشكالية، سجّلت هذه الجلسات رقما قياسيا في طول مدتها. وبزيادة عدد أعضاء المجلس إلى 150 نائباً، تضخمت مخصصاته، وارتفعت وتيرة الملل بين صفوف الجمهور المتابع لجلسات الثقة.
الأيام والأسابيع الماضية أثبتت أن الحكومة والنواب لن يكونوا "قدّ حمل" لواء الثورة البيضاء التي أعلنها الملك، ردا على المطالبات العديدة منذ عامين بإحداث إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. فلا الحكومة ولا البرلمان لديهما برنامج عمل واضح، يحمل سياسات قابلة للمساءلة والقياس من خلال جدول زمني وتوقيتات وتعهدات، ضمن مؤشرات أداء معلنة سلفا.
ما العمل إذن؟ هل نفقد الأمل؟
كلا. فهناك مجموعة نواب جدد، مثل
د. مصطفى حمارنة ورلى الحروب، ونواب من المجلس السابق، مثل عاطف الطراونة وأمجد المجالي، قدموا تصورات وأفكارا يمكن البناء عليها لمساعدة الحكومة على بلورة رؤية مختلفة للإصلاح، قد تثير الحماس وتلهم الناس، وتحقق التعبئة وتحرك قوى التغيير المبعثرة، ولو على نحو تدريجي.
بإمكان هؤلاء العمل مع عدد كبير من النواب وصولا إلى برلمان أفضل وأقوى، إذا اتجهوا بسرعة لإحداث إصلاحات داخلية عميقة؛ بإقرار نظام داخلي جديد، وأطلقوا حوارا حول كل محور من محاور الإصلاح، متكئين على الأجندة الوطنية التي توفر بديلا متكاملا لإصلاحات عميقة.
بعد ذلك، يؤسسون لعقد ملتقى وطني مع مختلف الأحزاب والتيارات، وقوى الحراك والنقابات وممثلي المجتمع المدني، للتوافق على شكل الأردن الذي نريد. في الأثناء، يؤمل أن يرسل د. النسور مشروع قانون انتخاب عصريا إلى المجلس، ويواصل الحرب على الفساد، لكي يتسنى للجميع التقاط الأنفاس والتركيز على تحديات اقتصادية واجتماعية، يُخشى أن تكون المحرك القادم لحال من عدم الاستقرار الداخلي
الغد