الآن نكتشف بأن «النخب» التي كانت «تبيعنا» كلاماً حول الوحدة الوطنية والانتماء والاخلاص لم تكن صادقة، فهي لا تتردد عن تفريغ حمولتها الحقيقية على طاولة أي سفير أجنبي في أول لقاء تُستدعى اليه.
الآن، نكتشف أيضاً بأن الحكومات التي بشرتنا «بالسمن والعسل» والتنمية الشاملة وبرامج التحول الاقتصادي وغيرها من «الانجازات» كانت - للاسف - تخدعنا، فالتنمية لم تتحقق، والاموال ذهبت الى جيوب المستثمرين الجدد وسماسرتهم، والارقام التي أذهلتنا ظلت حبراً على ورق.
الآن نكتشف ايضا بأن السياسات التي أسرفنا في مدحها والتصفيق لها قد انتهت بنا الى «انسدادات» على صعيد السياسة، واختناقات على صعيد المال، وأزمات اجتماعية ما تزال تشكل بؤراً للانفجار، وشعور عام بالخيبة والاكتئاب.
في غياب الحرية حدث كل ذلك، وفي غياب المساءلة والمحاسبة أصبح كل واحد منا يلوم الآخر، وفي غياب القدرة على معالجة الاختلالات وتطويق الازمات ومحاصرة حالات الشك والاحتقان أصبحنا ندور في حلقة مفرغة، تارة نتسلى بهجاء مرحلة مضت، وتارة نحاول أن نبني جزءاً مما انهدم، وتارة أخرى نقف مكتوفي الايدي لا حول لنا ولا قوة.
ما فعلناه بحق أنفسنا وحق بلدنا كان كبيراً بكل المقاييس، وما يفعله البعض في هذا السياق اليوم يبعث حقاً على الحيرة، فبدل ان نقف في لحظة «استثنائية» كهذه لنراجع مرحلة مضت وحسابات خاطئة ارتكبت وتقديرات غير صحيحة دفعنا ثمنها باهظاً، لم نفعل اي شيء، بل على العكس ما يزال البعض يصرّ على الخطأ ويستهين بكل دعوة صحيحة، ويتعامل معه بمنطق المنتصر ومع الآخرين الذين سقطوا ضحايا بمنطق الاستهتار والاهمال.
من حسن حظ الناس أنهم اكتشفوا كل شيء: النخب ومواقفها حين عقدت زواجها مع السلطة وبعد ان تم الطلاق، والحكومات وبرامجها حين سوّقت الارقام والبشائر وحين خرجت ولم تنجز الا «الازمات»، والفاسدون الذين تحولوا الى نجوم سياسية واجتماعية ثم انقلبوا الى «الغاز» وأشباح ليظل الطابق مستورا.
لكن من سوء حظنا ان شيئا لم يتغير، لا المقررات ولا الممارسات، لا المواقف ولا التحالفات، لا الجيوب التي أثرت وتضخمت ولا البطون التي ما تزال تتضور من الجوع.
نريد ان نخرج من هذه «الدوامة» ونريد ان نصحو على زمن جديد يتغير فيه سلوكنا لا مجرد كلامنا، نريد ان نختبر ذكاء المسؤول وارادته لا صبر الناس واحتمالهم، ونريد ان تكون القطيعة مع اخطائنا نهائية وأبدية، لكي نقتنع بأن القطار عاد الى سكته الطبيعية وبأن الاصلاح استحقاق وضرورة لا مجرد ترف أو ردّ للجميل أو هروب بضعة خطوات الى الأمام.
متأخرين نكتشف كل ما ذكرت، ونتمنى ان نتجاوزه ولو متأخرين فلم يبق - على ما يبدو - لدينا المزيد من الوقت للجدل والتلاوم وانتظار اكتشافات جديدة تعيدنا الى الوراء.
الدستور