"نحن" على درب الخليج

"نحن" على درب الخليج
الرابط المختصر

لن أساجل د. محمد المسفر حول مقاله المسيئ "الأردن غير باكستان والمغرب ومصر"، المنشور في صحيفة "العربي الجديد"، فله الحق في الدفاع عن "عاصفة الحزم"، ولا يجدر بي استنكار منطقه الذي يشيد بالموقف الأردني لأنه يراه تعبيراً عن دولة لا تمتلك إعلاماً أو برلماناً قد يعارضا سياسات الخليج الذي يرسل إلينا المساعدات مقابل الالتزام بتوجيهاته، فلقد حظيت طروحات المسفر -للأسف- باحتفاء أهل السياسة والصحافة لدينا كالعادة!

 

يناقش المقال المذكور الصراعات والتحالفات من باب "الصداقة" لا المصلحة التي قد تتباين من بلد إلى آخر، حين يحاول أن يصوغ مفردات ملطفة في وصف علاقة دول "مجلس التعاون" مع الأردن، غير أن حديثه المنفعل في الهجوم على "حالات ديمقراطية" في باكستان والمغرب ومصر يكشف ما هو أخطر فيما يتعلق بالنظرة الخليجية إلى مفهوم الدولة.

 

ينتقد كتّاب ومنظرو الإعلام السعودي، والخليجي عموماً، التجارب الشمولية في الحكْم، طوال العقود الماضية، وربما فاتهم في الأثناء أن الخطاب الرسمي لدول الخليج يريد فرض مقاربته الوحيدة على جميع الدول في التعامل مع أحداث المنطقة، وينسحب الأمر على تدخلها في الشؤون الداخلية لدول عربية سواء في دعم تيار سياسي معين، وتحديد شكل الحكْم المناسب والمواقف المقبولة لكل دولة وصولاً إلى رسم ثقافة المجتمع وسلوك أفراده عبر دعم جماعات ومراكز دينية لا مؤسسات مدنية.

 

يفاخر الخليج باعتماده شكلاً "متعدداً" للدولة، التي تنتهج اقتصاد السوق المنفتح والجاذب للاستثمارات والمشاريع الكبرى، وبمدنٍ تشبه هونغ كونغ ونيويورك، بأسواقها ومطاعمها وحدائقها، ومهرجانات ومعارض ومؤتمرات كونية لا تتوقف طوال العام.

 

يلتقي الوافدون في الخليج من كل جنسيات العالم، ويتعلمون هناك في عشرات المدارس الأجنبية باختلاف مناهجها وطرق تدريسها وطلابها الذين يتخرجون عن مناهج ومعارف متعددة، ويتنقلون بأزيائهم ولغاتهم المتنوعة كأنهم في كرنفالٍ دائمٍ، لدرجة تشعرك بأنهم أغلبية سكان البلاد!

 

التنوع في البشر والأزياء والأطعمة لم يصنع دولة تقدّر الاختلاف بين أفرادها وبينها وبين الدول الأخرى، ليس فقط بسبب افتقاد بعض الدول الخليجية للأحزاب والبرلمانات والصحافة الحرة، الذي اعتبرها الكاتب المسفر عبئاً على بلاد فقيرة، تلجأ إلى مساعدات الخليج، إذ قد تقود هذه الديمقراطية أبنائها إلى الغدر وقلة الحياء.

 

التعدد الخليجي في الشكل يقابله سيادة سلطات أحادية في تكوينها وبنيتها الحاكمة وفرضها ثقافة بمعايير محددة تسعى بكل قواها للتحكم بنظرة العرب جميعاً إلى العدو والصديق، والعلاقات التي يجب أن تجمع دولنا، وفهمنا للسياسة والدين والثقافة وجميع مناحي الحياة.

 

ماذا يعني أن يجتمع العالم حول مائدتك، وأنت لا تستطيع أن تحترم اختلاف ألوانهم وآرائهم واحتياجاتهم ورغبتهم في بناء أوطان حديثة قد تؤمّن ازدهاراً واستقلالاً مالياً وسياسياً يغني الأجيال المقبلة من طلب المساعدات والقروض والهبات!

 

تقود هذه الأحادية في منظومة القيم والمنافع نحو الفشل، وإن ادعت حفاظها على مصالح العرب وحققت نجاحات سياسية هنا وهناك، فما تحتاج إليه الدول العربية -والخليجية منها لو شاءت ذلك- إذا أرادت مواجهة النفوذ المتزايد للقوى الإقليمية الصاعدة، هو نموذج مغاير للدولة يكون منطلقه التعليم الموحد بمنهاج وبيئة تعليمية ومدارس مشتركة لجميع المواطنين، بلا فوارق بينهم على أسس طبقية أو دينية أو إثنية.

 

مواطنون يدرسون العلم ذاته، ومادة الأخلاق نفسها لا تفرقهم طوائف ومذاهب، ويؤسسون ذاكرة وطنية واحدة تحترم جميع رجالات الوطن تساهم في صوغ هويتهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويتساوى الكل في أيام الدوام والعطل بالأعياد الوطنية والدينية – مثل فرنسا وألمانيا وغيرهما- إذ لا معنى لتعدد قيم التعليم ومخرجاته حد التناقض في مجتمعات مهزومة ومتخلفة! وبعد ذلك سيصار إلى تطوير أجهزة الدولة ومواجهة أزماتها الداخلية وأعدائها في الخارج بآليات ديمقراطية تحتكم إلى الشفافية والرقابة.

 

لن يفيد هنا ترديد الدعاية القائلة بأن أنظمة عربية عديدة سقطت رغم تطبيقها هذا النموذج، فهناك عوامل أهم وأقوى وراء سقوطها، كما أن تجربتها كانت مليئة بالأخطاء والعيوب، ولا تعد قدوةً حسنةً في هذا السياق.

 

التعليم وحده أساس التغيير نحو بناء دولٍ مدنية وحديثة؛ ولن نضطر حينها للاستماع من الأكاديمي محمد المسفر –الأكثر تهذيباً في الخليج- إلى حديث يعيب علينا حداثتنا المبنية على قواعد متينة، وبالتأكيد سنعطل جميعنا بأحد الفصح، اليوم الذي نشر مقاله فيه، بوصفه عيداً وطنياً لا مناسبة دينية تخص طائفة بعينها!

لقراءة مقال محمد صالح المسفر الرجاء النقر هنا

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.