موقف نبيل وكريم
أما وقد تشكلت حكومة البخيت وأعلنت، أجد نفسي ملزماً بالاعتراف بموقف محترم ومعتبر كنت مطلاّ عليه، للمهندس عبدالهادي الفلاحات رئيس مجلس النقباء، ونقيب المزارعين، وهو اعتذاره "عن عدم المشاركة في حكومة البخيت".
اعتذار الفلاحات لم يكن فقط عبر بوابة الإخوان المسلمين، ومن خلال موقفهم المركزي بعدم المشاركة، بل حتى من بوابة النقابات رغم الضغوط الكبيرة عليه للقبول بالوزارة. وقد رأيت كم كانت قيادات رسمية رفيعة حريصة على مشاركة الرجل في الحكومة والإفادة من كفاءته.
وبالرغم من إصرار القيادات الرسمية على أنّ طلبها من الفلاحات المشاركة هو لما يمثله شخصياً من مكانة محترمة لدى الجمهور، وحضور سياسي معتبر، وخبرة متراكمة في مجاله، إلاّ أنّه، في المقابل، لم يرد أن يسجل على الحكومة موقفاًً بأنّها تريد سحب البساط من تحت أقدام الجماعة، أو على الجماعة بأنّ أبناءها سرعان ما يتخلون عنها إذا وضعوا أمام إغراء المناصب أو المواقع الرسمية.
موقف الفلاحات يسجّل له، أيضاً، في أنّه يقدّم نموذجاً نبيلاً من احترام الذات والمبادئ والالتزام السياسي والفكري مع خطه، الذي انضم إليه مبكراً وسار عليه خلال عشرين عاماً ماضية، وسمعته التي لم تأت من فراغ، ومصداقية خطابه التي اكتسبها بمكابدة ونضال طويل ممتد.
وللأمانة، وبالرغم من أنّ الرجل كان من أنصار المشاركة السياسية بأنواعها كافة، إلاّ أنّه لم يخرج على رأي التيار الذي يمثّله، بذريعة قناعاته الشخصية.
بالضرورة، ليس سهلاً على أي شخص رفض أن يكون وزيراً، بخاصة من موظف يعتمد على دخله الشهري من وزارته، لكن هنالك معايير رمزية ومعنوية وأخلاقية أكبر بكثير من المعيار المالي أو الجهوي، وهو يسجّل لنفسه ولأبنائه موقفاً يدوم ويبقى بينما تذهب المواقع والأموال.
هذا الموقف هو ما نحتاج إليه حقّاً، سواء كان الرجل صاحبه في الحكومة أم المعارضة، فالفلاحات لم يخسر احترام المسؤولين في الدولة، إنّما كبر وأصبح أكثر مكانة واحتراماً، وكذلك أثبت لدى جماعته وللجميع أنّ معدنه عزيز، وأنّ هنالك من يستحقون بحق أن يكونوا قادةً وقيادات سياسية ووطنية.
ما الدلالة من هذا الحديث؟ أنّنا أمام حالة تدفع إلى التفاؤل والأمل بوجود نخب على درجة من الرقي والالتزام والمواطنة والوطنية، تختلف تماماً عن نخب أخرى ملّ منها الشارع تنقل مواقفها وتوجهاتها من النقيض إلى النقيض في لمح البصر، ولا تتردد في أن تكون اليوم في أقصى يمين الخطاب الرسمي وغداً على شماله تبعاً لمصالحها الشخصية وللمكتسبات الفردية.
بلا شك، عبدالهادي الفلاحات وإن كان عملةً نادرة، لكن ليست فريدة، فهنالك معادن مثله كثيرة في الوطن، لكن نحتاج بالفعل إلى استخراجها، لأنّها هي التي تستحق القيادة، سواء في الطبقة السياسية أو المعارضة أو الطبقة الإدارية، فهي المؤتمنة على مصالح الناس والأكثر كفاءة ونزاهة وقدرة على تحقيق الإصلاح المطلوب.
لم أكن بحاجة، شخصياً، لأتأكد من اجتياز الفلاحات هذا الاختبار، فقد اجتاز ما هو أصعب منه بكثير، لكنني أشعر بالراحة والسعادة وأنا أقول للقراء إن لدينا أمثال هذه الشخصية النبيلة.
الغد